السبت 16 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الأكاذيب الإلكترونية تهدد الصحافة الورقية

الأكاذيب الإلكترونية تهدد الصحافة الورقية
الأكاذيب الإلكترونية تهدد الصحافة الورقية


كل صحف العالم الورقية انخفض توزيعها، بدرجات مختلفة، فى السنوات القليلة الماضية، هذه حقيقة تسجلها الإحصائيات والوقائع، وبعض الصحف العالمية فضّلت الاكتفاء بالموقع الإلكترونى على الإنترنت وألغت تمامًا الطبعة الورقية، مثل «الاندبندانت» البريطانية..

حدث ذلك بسبب ظهور الإنترنت ومواقع ومنصات نشر إلكترونية مثل «فيس بوك» و«تويتر» و«جوجل» وغيرها، وبسبب إقبال أجيال جديدة على الإلكترونيات، وبسبب تفضيل المعلنين للإنترنت على الورق.
وكل هذا منطقى ومعروف، ويمكن أن يكون مرحلة يجب على الصحافة التقليدية الورقية دراسة كيفية التواؤم معها وتجاوزها، بإعادة النظر فى طبيعة العملية الصحفية ومقتضيات التغيير التى تفرضها حاليا ومنذ سنوات، ثورة تكنولوجيا الاتصالات، خاصة فى مجال نقل ونشر الأخبار.
وهو ما لم يحدث حتى الآن.
لكن مشكلة أكبر انفجرت مؤخرًا وأصبحت تهدد الصحافة الورقية ذات التاريخ والآداب والتقاليد والقوانين والمكونات المهنية والمسئولية، هى مشكلة أو وباء «الأخبار الكاذبة» الذى يجتاح العالم الآن ومنذ سنوات قليلة.
والمشكلة هذه المرة ليست بسيطة وواضحة وسهلة العلاج، فهى فى الحقيقة معضلة، مركّبة ومتعددة الأسباب والأعراض ومتداخلة العناصر، وأحيانًا يرى بعض الخبراء المراقبين لها، أن الأمر يحتاج إلى معجزة لتجاوز سرطان «الأخبار الكاذبة».. لكن «لا يأس» هو أهم قيم العمل الصحفى، وتاريخ الصحافة الورقية يكشف لنا أن مبدأ «لا يأس» هو الذى حمى هذه الصحافة من مخاطر موت محقق تعرّضت له فى مرحلتين على الأقل من مراحل تطورها وتقدمها وتفوقها، مرحلة ظهور الإذاعة فى أوائل القرن الماضى، ومرحلة ظهور التليفزيون فى منتصف ذلك القرن، الذى شهد أعلى وأقوى حضور للصحافة فى مختلف المجتمعات وخاصة تلك التى تتمتع بالتقدم والرقى والديموقراطية.
الأخبار الكاذبة
لاتصنعها الصحافة
صناعة الأخبار الكاذبة، كما نعانى منها الآن فى كل أنحاء العالم، لم تنشأ فى الصحافة، مع أن تاريخ الصحافة لا ينكر وقوع جرائم نشر أخبار كاذبة أو مزيفة أو ملفقة بين وقت وآخر خاصة فيما يعرف بـ«الصحافة الصفراء».
لكن تلك كانت وقائع محدودة وتم كشفها وعوقبت الصحف الناشرة لها وأصحاب هذه الصحف، حتى انتهت وماتت.
الخبراء المتابعون بعيون فاحصة لسرطان الأخبار الكاذبة المتفشى الآن، يرصدون أن مصدره الأساسى هو المنصات الإلكترونية «فيس بوك» و«جوجل» و«تويتر» وغيرها. ويكشفون عن أن هذا المرض الخطير المدمر للمجتمعات والنظم السياسية ومعانى وقيم التحضر، له أسباب، أولها أن استخدام الإنترنت فى نشر الأخبار، صحيحة كانت وحقيقة أم كاذبة ومزيفة، أصبح أمرًا بلا رقيب ولاحسيب ولا يشترط كما فى الصحافة الورقية العتيدة، مقومات وتخصصات ودراسات وخبرات ومواهب يتمتع بها من ينشرون الأخبار (الصحفيون) وإدراك للمسئولية الاجتماعية والأخلاقية والقانونية..  أصبحت الصحافة (أى عملية نشر الأخبار) بسبب الثورة الإلكترونية وانتشار مواقع الأون لاين.. فى خبر كان!
فأى إنسان أصبح صحفيًا لأنه ينشر أخبارا على «فيس بوك» أو غيره، دون أن يكون معروفًا من هو أو هى، وما هى درايته بالعمل الصحفى، وما هو مدى شعوره بالمسئولية ومدى فهمه لمخاطر النشر الذى لايقوم على الاعتبارات المهنية والأخلاقية والقانونية؟.. أصبحت العملية الصحفية «سداح مداح».. كل من هب ودب يستطيع أن ينشر «بوست» أو صورة أو مقطع فيديو، أو أى شيء.. دون مراجعة من أحد، ودون اعتبار لأى قيم. ومن هنا ظهرت الأخبار الكاذبة، ولظهورها أسباب أخرى منها النوايا الشريرة بغرض تشويه سمعة المنافسين أو الدعاية لصالح أشخاص أو جهات أو جماعات مشكوك فى نواياها ومصالحها، وسبب أهم من كل هذا هو المال. فالأخبار الكاذبة تنتشر بسرعة لأنها فى الغالب تقوم على فكرة اللعب على عواطف الناس، وأغلب الناس - كما كشف لنا الخبراء المختصون - لا يملكون القدرة على فحص وتمحيص ما يطالعونه من أخبار وصور على المواقع الإلكترونية، كما أنهم يميلون إلى تصديق والتعاطف مع الأخبار التى تجارى ما يعتقدونه من أفكار ومزاعم واهتمامات، وهم سرعان ما يتناقلون هذه الأخبار فتنتشر انتشار النار فى الهشيم. ويتحقق المال الوفير من تزايد الإقبال على مواقع نشر الأخبار الكاذبة، لأنها تجلب نسب إقبال عالية، ما يجعل المعلنين ووكلاء الإعلانات يفضلون نشر إعلاناتهم فيها، بغض النظر عما إذا كان ما تنشره حقيقيًا أم مجرد أكاذيب مفبركة تستهدف زيادة عدد الزيارات والنقرات عليها وزيادة الأموال التى يحصّلها أصحاب هذه المواقع، والمدونات.
والمؤسف أن بعض الصحف ومحطات التليفزيون العالمية اعتمدت فى بعض الأحيان أخبارًا كاذبة استمدتها من الإنترنت، واضطر بعضها بعد فترة للاعتذار عن ذلك وتصحيح تلك الأكاذيب.
حملة ترامب
ضد الصحافة الحرة   
وأحد أكبر المخاطر التى تتعرض لها الصحافة الحرة الرصينة التى تتمتع بروح المسئولية وتلتزم بالقيم المهنية وتنشد الحقيقة والحرية، هو أناس من نوعية «مقاول» أصبح فى غيبة من الزمن رئيسا لأهم دولة فى العالم، هو دونالد ترامب، الذى يعلن ببجاحة أنه ليس «سياسيا» ومع ذلك يعمل بالسياسة!
والذى يعتبر أكبر ناشر فرد للأكاذيب، بأكبر كمية ممكنة على موقع الكترونى شهير هو «تويتر» كل يوم وأكثر من مرة فى اليوم الواحد، وتكاد الأخبار الكاذبة التى نشرها فى الموقع أو فى أحاديثه الصحفية والتليفزيونية ومؤتمراته الصحفية، خلال أكثر من سنة منذ تقدمه للترشح للمنصب الخطير وحتى الآن، تشكل المهمة الحقيقية التى يقوم بها فى حياته هذه الأيام.. ولأنه كثير الكذب وكثير الأخطاء وشديد السوقية والجهل والغلظة والحماقة ولا يفهم فى السياسة، فهناك فى أمريكا من يخشى على سمعة هذا المنصب الحساس وهناك من يصعب عليه الحال الذى وصلته أمريكا فى زمن ترامب، وهؤلاء سياسيون وكتاب وصحفيون وإعلاميون وفنانون ورياضيون وهناك صحف ومحطات تليفزيون كبيرة وشهيرة عالميا ولها مصداقيتها وكفاءتها وسمعتها، تبذل كل جهدها وحنكة رجالها ونسائها فى مواجهة هذه الأكاذيب والأخطاء والخطايا، وتكشف عيوب منطقه وسياساته وتضارب أقواله وتراجعاته وألفاظه الخارجة وعداءه للنساء وعنصريته ووقاحته، وعداءه للمهاجرين، مع أن أمريكا هى أمة مهاجرين، تقود هذه الصحف والتليفزيونات مثل «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«سى إن إن» وغيرها، حملات تنتقد ترامب وإجراءاته وتصرفاته وأكاذيبه، ليس بعد انتخابه - الذى كشف خبراء إعلاميون أنه تم بتأثير انتشار الأخبار الكاذبة - ولكن منذ ترشحه أصلا.. وهناك انتقادات شديدة حتى الآن للحزب الجمهورى الذى سقط ووقع تحت تأثير المليارديرات، وانتقى مرشحًا لا علاقة له من قريب أو بعيد بالعمل السياسي.
فماذا كان موقف مستر ترامب؟.. قاد حملة شعواء مسعورة وفاقدة لأى منطق ضد الصحافة والإعلام وخاصة هذه الصحف ومحطات التليفزيون التى تكشف عوراته وفقدانه للمؤهلات اللازمة لمنصبه واختلال تفكيره وسطحيته وتراجعاته الدائمة عن بياناته وقراراته.. وحول عبارة «أخبار كاذبة» - «فاك نيوز» - إلى تهمة يوجهها فى كل مناسبة وبدون مناسبة وبوقاحة وقلة ذوق للصحافة والإعلام.
الصحافة
عدو الشعب الأمريكي!
الخبراء المتمرسون فى صناعة ومهنة الصحافة والإعلام يدركون أن هذه مرحلة وسوف تمر وأنها تعكس فيما تعكس تدهور النظام السياسى الحزبى فى أمريكا، حتى إن هذا النظام سمح لشخص لا علاقة له بالسياسة والعمل السياسى والحزبى والعلاقات الدبلوماسية الدولية بالتقدم لهذا المنصب والفوز به.
ولأن الرئيس الأمريكى يمالئ التيارات اليمينية المتطرفة فى بلاده ويعتبرها مرجعيته والقوة المساندة له والمدافعة عنه فقد شاركت هذه التيارات والجماعات فى ترويج ما يردده من أن الصحافة والإعلام هما «عدو الشعب الأمريكى رقم واحد».
ويعترف خبراء الإعلام فى أمريكا بأنه تم نشر إحساس عام مضاد للصحافة والإعلام، وتم بث شعور عدم الثقة فى مصداقيتها، وساعد على ذلك - كما يرون فى دراساتهم وأبحاثهم - انتشار وباء الأخبار الكاذبة.
والاعتقاد السائد بين هؤلاء الخبراء أن ذلك زاد من وطأة المعاناة التى تواجهها الصحافة الورقية بصفة خاصة، ما يعنى أن عليها أن تعمل بكل طاقتها وخبراتها ومواهبها على استعادة الثقة وتجديد وسائلها ومكوناتها وتطوير أدائها، وابتكار أساليب جديدة تتعايش مع عصر ثورة المعلومات والاتصالات وتستفيد من إيجابياتها فى التطور المنتظر منها.. وهذه فى النهاية هى مسألة حياة أو موت!
فى الأسبوع المقبل نكمل.