هل يحاول الفضائيون فعلا الاتصال بأهل الأرض
عودة الأطباق الطائرة«1»
يروى الحكاية : عمرو محمد الغزالى
السماء، منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، كانت مرآة للخيال البشري، مسرحًا لأحلامه ومخاوفه، وموطنًا لرؤاه التى تتجاوز حدود العلم والتجربة، يلتقى الواقع بالوهم.
وتنسج العقول أساطير الأطباق الطائرة، من كينيث أرنولد إلى أضواء وأجسام غريبة تتراقص بين الحقيقة والخيال، بين الضوء والسراب.
تمر الأزمان وتتبدل الرؤى، لكن لا شيء يوقف التساؤل أو يغير دهشة من يرفع عينيه نحو السماء، فتظل الأجسام الطائرة المجهولة تطوف وتحوم وتعاود الظهور، حاملة أسرارًا لا تنتهي، لتصبح السماء حكاية لا تنتهي، ترويها أعين البشر وقلوبهم، ويظل السؤال: متى يحاول أهل الفضاء الاتصال بأهل الأرض؟! وكيف؟!

أول شاهد
فى صباح الرابع والعشرين من يونيو عام 1947، حلق كينيث أرنولد بطائرته الصغيرة فوق جبال ولاية واشنطن.
رجل يعرف الطيران كما يعرف السماء، طيار متمرس، عضو فى فرق البحث والإنقاذ، ورجل أعمال يحترمه الجميع.
السماء كانت صافية، الرياح هادئة، كل شيء يوحى بيوم عادى، معتاد.
لكن الأيام العادية، كما تعلمنا الحياة، هى التى تختبئ فيها المفاجآت الكبرى.
فجأة، أمام عينيه، ظهرت تسعة أشياء لامعة، تتراقص فى الهواء بسرعة لم ير مثلها أحد من قبل، لا تقل عن ألف ومئتى ميل فى الساعة.
تتحرك فى صف ممتد لخمسة أميال، كرات ضخمة، قطر الواحدة منها مئة قدم، بلا ذيل، بلا جناح، لكنها تقفز وتتقلب بخفة، كأنها ألعاب مائية على صفحة الهواء. أرنولد نفسه وصفها فيما بعد بأنها تتحرك «مثل صحن يقفز على الماء».

ومن تلك اللحظة صار أرنولد أول شاهد، وأول راوٍ، وأول باب يُفتح على عالم غامض اسمه؛ الأطباق الطائرة. الخبر قفز بدوره، من صحيفة إلى أخرى، من سياتل بوست-إنتيليجنسر إلى إيست أوريجونيان فى بندلتون.
الأجسام لم تكتف بالسماء، صعدت إلى الورق، وبدأت رحلة جديدة، هذه المرة عبر العناوين الصحفية.
فى البداية، ظن أرنولد أن ما يراه مجرد انعكاس للشمس على أجنحة طائرة عسكرية من طراز P-51، لكنه سرعان ما استبعد هذا الاحتمال بعد ظهور المزيد من الأضواء، وبعد أن لاحظ الحركة المتناسقة للأجسام.
ما كان أمامه ليست مجرد طائرات عادية، كان تشكيلًا غريبًا، سرعة لا يصدقها عقل، حركة متزامنة، وتصميم غامض، جعل الجميع يتساءل: ما هذه الأجسام؟ وما طبيعتها؟
عاد أرنولد إلى ياكيما، وبدأ يحكى لأصدقائه، ويتحدث إلى الصحفيين، الذين استمعوا إليه بانتباه، وأكدوا مصداقية الرجل، فالطيار لم يبالغ، ولم يضف خيالًا، وصف ما رآه بأمانة ودقة.
نُشرت قصة أرنولد لأول مرة فى عدد قليل من الصحف فى يونيو 1947، ثم انتشرت فى العديد من الصحف الأمريكية والكندية وبعض الصحف الأجنبية فى اليوم التالى، وغالبًا على الصفحة الأولى.
أول من أجرى مقابلة مع أرنولد كان الصحفيان نولان سكيف وبيل بيكيت من صحيفة إيست أوريجونيان فى بندلتون، ونُشرت أول قصة كتبها بيكيت فى نفس اليوم، وقد رُويت القصة فى البداية بنبرة جدية ومنصفة.
وصف أرنولد الأجسام بأنها مسطحة، رقيقة، مستديرة من الأمام ومقطعة من الخلف، تشبه الصحن أو القرص، وأحيانًا شبه طبق فطيرة، وحركتها تشبه ذيل طائرة ورقية أو حركة السمكة فى الشمس، تتقلب وتلمع مثل المرآة.
فى مقابلة إذاعية مع تيد سميث وصف أرنولد الأجسام بأنها «تشبه طبق فطيرة مقطوع إلى نصفين مع مثلث محدب فى الخلف، وتتقلب وتومض فى الشمس، وتتداخل داخل وخارج قمم الجبال مباشرة».
فى السادس والسابع والعشرين من يونيو، بدأت الصحف تستخدم مصطلحى «الصحن الطائر» و«القرص الطائر» للإشارة إلى الأجسام.

الفضل كله لرؤية أرنولد، وإن كان لاحقًا شعر أن الصحفى بيل بيكيت أساء اقتباس كلامه، فقد كان يقصد حركة الأجسام لا شكلها. ومع ذلك، انتشرت هذه الكلمات فى المقالات، وتناقلها العامة والخبراء والمراقبون للظواهر الغريبة، لتصبح جزءًا من الثقافة الجماهيرية، ومع أولى التحقيقات العسكرية بدأت الأسئلة تتزايد، والفضول يتأجج، والسماء لم تعد كما كانت.
الصحف لم تكتفِ بنقل الخبر.
سبوكان ديلى كرونيكل، فى عددها الصادر منتصف يونيو 1947، وصفت الظاهرة بدقة: «تسع أطباق طائرة تتألق فى سماء كاسكيد»، مؤكدة سرعتها الهائلة، وانتظام تشكيلها الغريب.
وذكرت أيضًا ردود فعل السكان المحليين، الذين شاهدوا وميض الأجسام، أو انعكاسات على البحيرات الصغيرة، أو حتى على نوافذ المنازل، ما أضاف إلى غموض الحادثة، وأعطاها بعدًا ثقافيًا كبيرًا، جعله موضوعًا للتساؤل والتحليل على نطاق واسع.
من الناحية العسكرية، بدأت القوات الجوية تحقيقات سرية، وأرسلت فرقًا لتقصى الأمر، وأظهرت الوثائق لاحقًا أن الأجسام التى شاهدها أرنولد ربما كانت طائرات تجريبية أو تشكيلات جوية سرية، مع احتمال رؤية تجارب لطائرات نفاثة حديثة، أو نشاطات سرية لطائرات استطلاع، لكنه لم يتم العثور على دليل ملموس، ومع ذلك بقيت شهادته محط اهتمام العلماء العسكريين، الذين درسوا حركة الطائرات المتقدمة، وحاولوا تفسير الظواهر البصرية والسرعات الكبيرة التى سجلها أرنولد، وأشاروا إلى أن الرؤية ربما تكون دقيقة، لكن العقل البشرى صعب عليه إدراك كل تفاصيل سرعة وتحرك الأجسام فى السماء.
ساهمت الحادثة فى إطلاق سلسلة تحقيقات رسمية، كانت البداية مع مشروع ساين، ثم مشروع جرادج، وأخيرًا مشروع بلو بوك، حيث أصبحت الشهادة الموثقة لرؤية أرنولد مرجعًا أساسيًا لكل الحالات المماثلة، ودفعت المجتمع الأمريكى للاهتمام بالظواهر الجوية غير المفسرة، وأشعلت خيال العامة، وجعلت الكتب والمقالات والبرامج التليفزيونية تبحث فى السماء كل يوم عن أطباق جديدة.
أرنولد نفسه أكد لاحقًا فى مقابلات مع مجلة لايف ومجلة فيت أنه لم يشعر بالخوف، بقدر الدهشة والفضول، وأن الحركة المتناسقة للأجسام تشير إلى تنظيم غير عشوائى، وهو ما أثار اهتمام العلماء العسكريين الذين درسوا كيفية تحسين الطائرات المدنية والعسكرية باستخدام تقنيات التحليق السريع، والقدرة على التحكم فى السرعة والارتفاع، وتقليل مقاومة الهواء، وهى تقنيات تأثرت مباشرة برصد أرنولد.
تأثير الحادثة لم يقتصر على العلم.
امتد إلى المجتمع العام، بدأ الناس يرفعون أعينهم إلى السماء، يراقبون أى وميض غريب، ويكتبون تقارير عن الأجسام الغريبة.
بدأت مجموعات الهواة تجمع شهادات الشهود، وربط ما يراه الناس بالأحداث السابقة.
الإعلام التقط هذه الملاحظات، ونشر مزيدًا من القصص، ليثير الفضول العلمى والثقافى، حتى أصبحت الحادثة جزءًا من التراث الشعبى الأمريكى. تُدرس فى المدارس، وتناقش فى البرامج الوثائقية، وتصبح مرجعًا لكل الحالات التى رُصدت لاحقًا.
ما شاهده أرنولد كان لحظة فارقة: بداية عصر جديد من الفضول العلمى والثقافى، من التحقيق العسكرى والإعلامى، من الرصد الشخصى، ومن شغف الإنسان بالمجهول، بالسماء، بالسرعة، بالغموض، وبالأجسام التى لا تُفسر بسهولة.
ربما كانت تلك الأجسام أولى الطائرات التى ألهمت البشرية على فهم أسرار السماء، وأثارت رغبة الإنسان فى البحث، التساؤل، والنظر إلى الأعلى، إلى ما وراء المألوف، إلى ما يشبه الحلم لكنه حقيقى.
السماء التى كانت هادئة فى صباح الرابع والعشرين من يونيو، صارت لوحة متحركة، مليئة بالخيال والفضول، مليئة بالأسئلة التى لم يجد الإنسان لها إجابة بعد.
رحلة أرنولد الطائرة تحولت إلى رمز لعصر جديد، حيث السماء لم تعد مجرد فراغ، بل بداية اكتشافات، بداية أسئلة، بداية رغبة الإنسان فى فهم ما يعلو فوقه، وفهم ذاته من خلال ما يراه فى الأفق البعيد.
السابقة رواية، والتالية يقين، وبينهما كان الحطام شاهدًا، وكان المزارع ناقلًا، وكانت روزويل بابًا لم يُغلق..
أشعة الذهب
فى صباح يوم من شهر يوليو عام 1947، كانت صحراء نيو مكسيكو تستيقظ تحت أشعة الشمس الذهبية، حين عثر المزارع ماك برازيل على حطام غريب فى مزرعته الواقعة قرب روزويل.
كانت رقائق لامعة، عيدان خفيفة، وأشرطة لا تُشبه أى شيء عرفه البشر من قبل.
لم يكن مجرد اكتشاف عادى، وكان بداية قصة أخرى ستظل محفورة فى الوعى الشعبى لعقود طويلة.
القوات الجوية الأمريكية أصدرت بيانًا رسميًا نُشر فى جريدة روزويل ديلى بتاريخ 8 يوليو 1947، جاء فيه: «عثرنا على طبق طائر». وبعد ساعات جاء التراجع سريعًا: «بالون طقس».
ومع ذلك، ظل المقدم جيسى مارسيل، ضابط الاستخبارات فى قاعدة روزويل، يؤكد بعد ثلاثين عامًا فى مقابلة مع مجلة يو إف أو ريبورت عام 1978: «ما رأيته لم يكن من الأرض».
وفى مقابلة تليفزيونية عام 1980 ضمن برنامج «البحث عنه»، كرر شهادته قائلًا: «القطع التى رأيتها كانت صلبة وخفيفة فى الوقت نفسه، ويمكنها العودة إلى شكلها الأصلى بعد ثنيها أو كسرها، ومعظمها يحمل رموزًا غريبة. لم أستطع تفسير ما رأيته وفق أى خبرة عسكرية لديّ».
منذ ذلك الحين، لم تهدأ الروايات، وظلت الذاكرة الشعبية متعلقة بالرقائق العجيبة والأشرطة اللامعة، وصوت الريح وهى تمر فوق الرمال والصخور فى مزرعة برازيل.
حادثة روزويل مثلت رمزًا للغموض وسؤالًا مفتوحًا حول وجود الحياة خارج الأرض. وقعت الحادثة فى فترة تعافى الولايات المتحدة من آثار الحرب العالمية الثانية، وكانت الأجواء مشحونة بالخوف من السوفييت والسباق النووى.
كل حدث غير مألوف اعتُبر تهديدًا محتملًا أو غامضًا، وساهم فى ظهور أسطورة الصحون الطائرة.
حسب تقرير القوات الجوية الأمريكية بعنوان «تقرير روزويل: القضية مغلقة»، فقد كان الحطام الذى عثر عليه برازيل جزءًا من بالون تابع لمشروع سرى يُعرف باسم «موجول»، وكان الهدف من هذا المشروع استخدام بالونات عالية الارتفاع مزودة بأجهزة استشعار صوتية لمراقبة الانفجارات النووية السوفيتية المحتملة.
كان المشروع سريًا للغاية، وما زال العديد من تفاصيله غير معروفة لعامة الناس حتى وقت لاحق.
أشار أرشيف واشنطن بوست فى يوليو 1947، إلى أن السلطات العسكرية تعاملت مع التحقيق بجدية، وحددت نقل الحطام إلى قاعدة هولومان الجوية للتحليل الفنى، مؤكدة عدم وجود أى نشاط خارق للطبيعة. البيئة الاجتماعية والفكرية فى نيو مكسيكو كانت مهيأة لتصديق الأخبار الغريبة، مزيج من الفضول والخوف والدهشة أمام كل جديد على الأفق.
الحطام تضمن ورق قصدير، وورقًا ومطاطًا، وشريطًا لاصقًا وعصى، مواد عادية تتطابق مع مكونات بالون موغول.
خفة وزنها وصلابتها وقدرتها على العودة إلى شكلها الأصلى بعد الثنى أو الكسر أثارت استغراب الشهود. بعض القطع حملت رموزًا غريبة تشبه الهيروغليفية، دفع المقدم مارسيل للاعتقاد أن الحطام ربما له أصل غير بشرى أو غير معروف فى المعايير العسكرية آنذاك.
بالونات موجول كانت إنجازًا تقنيًا مهمًا.
المادة المستخدمة فى تصنيعها، البوليثين، سمحت للعلماء بدراسة الغلاف الجوى العلوى باستمرار.
بعض البالونات كانت ضخمة، قادرة على حمل حمولات تصل إلى خمسة عشر ألف رطل إلى ارتفاعات شاهقة، كثيرًا ما أسيء تعريفها على أنها «صحون طائرة» بسبب شكلها وقدرتها على عكس أشعة الشمس.
غموض الحادثة زاد مع ظهور الادعاءات عن «الجثث الفضائية» بعد أكثر من ثلاثين عامًا، فى عام 1978.
هذه الادعاءات ارتبطت ببرنامجين بحثيين للقوات الجوية، هما هاى دايف وإكسلسيور، حيث أُسقطت دمى اختبارية بشرية على ارتفاعات عالية لاختبار تأثير السقوط الحر على جسم الإنسان.
النشاطات وقعت بالقرب من المواقع التى شهدت تحطم الحطام، أدى ذلك إلى الخلط بين الدمى والادعاءات عن كائنات فضائية.
توافق أوصاف الشهود مع خصائص الدمى.
وصف جيرالد أندرسون «الكائنات» بالدمى البلاستيكية، وأشار جيمس راجزدال إلى استخدامها فى التجارب. ولاحظ الشهود تعرض الدمى لأضرار كبيرة عند السقوط، مثل فقدان الأصابع والرؤوس، بينما كان لون البدلات الفضية مطابقًا للبدلات المستخدمة فى الاختبارات، ما زاد الالتباس لدى العامة.
الادعاءات المتعلقة بفرق عسكرية غامضة كانت فى الواقع فرق استرداد بالونات تابعة للقوات الجوية، تتألف من ثمانية إلى اثنى عشر فردًا، تستخدم مركبات مثل الونش والشاحنة 6×6 وناقلة أسلحة لاستعادة الدمى والحطام بسرعة.
وفقًا لتقارير الجيش، الهدف كان ضمان أمان الماشية واسترجاع المعدات اللازمة للتحليل، لا الترهيب أو التهديد.
التقرير أضاف أن بالونات القوات الجوية لم تُستخدم فقط لحمل الدمى، بل لاختبار مكونات الأقمار الصناعية ومركبات وكالة ناسا مثل ديسكوفيرر، فايكنج، وفويجر-مارس، حيث أُجريت هذه الاختبارات فى نيو مكسيكو.
بعض المركبات كانت تشبه الصحون الطائرة، ما أضاف إلى غموض الحادثة.
صحيفة شيكاغو تريبيون وثقت فى يوليو 1947 أن السكان المحليين فوجئوا بالحضور المكثف للجيش فى المنطقة، وتداولت الأخبار بين الناس أن الحادثة تتعلق بمركبة غريبة، بينما الجيش أكد أن الحطام مجرد بالون طقس.
مرت السنوات، وظلت روزويل حيّة، نبض الغموض فيها مستمر، ثقافة وأساطير متجذرة، سكانها أنشأوا متاجر تذكارية تحكى الحادثة، والشرطة أضافت شارات بها طبق طائر وشعاع يشكل حرف «R»، وشعار: «حماية وخدمة من يهبطون هنا».
وفى كل صيف، يقام مهرجان الأطباق الطائرة، يجمع التاريخ بالثقافة، والاقتصاد بالأسطورة، مع عروض ومحاضرات وأكشاك تذكارية.
فتظل روزويل موقعًا حيًا، يحمل الحكاية، ويجسد الغموض فى كل متجر، فى كل شارة، فى كل مهرجان، بين الماضى والحاضر، بين الحقيقة والخيال.
تبقى الحكاية حيّة، والغموض لم يرحل، وأرنولد ومارسيل تركا بصمات لا تمحوها الأيام. كل شاهد جديد يضيف طبقة على الذاكرة، وكل رؤية غير مفسرة تفتح بابًا للدهشة.
المجهول ما زال يختبئ بين النجوم وبين رمال صحراء نيو مكسيكو، ينتظر من يرفع عينيه إليه، من يواصل البحث، من يحلم بما وراء الواقع.
رحلة الغموض بين الواقع والخيال، بين العلم والأسطورة، جزء من إرث الإنسان، والحكاية مهما حاولنا تفسيرها، تظل حيّة، تحمل مفاجآت جديدة فى الأجزاء القادمة.