السبت 1 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
القديس (2)

القديس (2)

يقول (الخميسى) للكاتب يوسف الشريف إن تفَتَُح براعم الإبداع لديه كان منبعه حالة الوحدة، والشقاء التى عاشها فى طفولته تلميذاً مُغترباً عن داره فى غرفة موحشة استأجرها له أبوه فى (ميت الزرقا)، فكان يقرأ كلَّ ما تقع عليه عيناه من القصص، والأشعار، والأساطير بما يفوق عمره، فلما أمسك بالقلم انساب على الورق الشعر، والأدب، والحكي، والسرد، إفراغاً لما تحتويه نفسه من الأسى، والوحدة، والأحزان.



إذا كانت مواويل أبيه الحزينة فى القرية، والموسيقى الكلاسيكية الصادرة من جرامافون جارة أمه اليونانية فى المدينة قد شكلا الإصيص الذى نبتت فيه بذرة الشجرة الفنية، فإن التربة الخصبة التى ترعرعت فيها مواهب (عبدالرحمن الخميسى) أتت بعد سنوات قليلة من نزوحه للقاهرة (1936)، إذ كان مجلسه الدائم مقاهى شارع «محمد على»، يكتب المونولوجات، والأغانى، وهناك كانت بدايته مع (الموسيقى) إذ استهوته آلة البيانو النقَّالى الذى يعمل على قربة النفخ، فتعلَّم وأجاد العزف عليه فى فترة  وجيزة،  وهناك أيضا التقطه (أحمد المسيرى)، صاحب فرقة مسرحية جوالة، ومبدع متعدد المواهب مثله: مؤلف وممثل ومخرج مسرحي، ملحن ومطرب، وماكيير وديكورست.... الخ، عبقريٌّ التقط عبقرياً، وفتح له المجال واسعا بلا قيود، فانطلق (الخميسى) يطلق مواهبه فى تلك المجالات أيضا، (يؤلف المسرحيات ويخرجها، ويكتب الأغاني، ويلحنها)، لكنه يقرُّ أيضا أنها كانت مدرسة من مدارس الحياة تعلم فيها من زملائه الفنانين التلقائيين، ومن الاحتكاك بالجمهور، ومن طبيعة الأداء الذى يستلزم الارتجال.

وكان الاكتشاف الأول لـ(الخميسى) هو نجم نجوم المونولوج  الأشهر، نجار تلك الفرقة (محمود شكوكو)، بل إن شخصية (شكوكو) الكاريكاتيرية بملابسها (الزعبوط المدبب، والجلابية المخططة، والعصا)، ثم التمثال الذى انتشر مع باعة الروبابيكيا يبيعونه بزجاجة فارغة «شكوكو بإزازة»، كلها من تصميم وإبداعات (عبدالرحمن الخميسي)، وحينما أفل نجم فرقة (أحمد المسيرى والخميسي)، بينما علا شأن شكوكو، فكان آخر ما كتباه معا لـ(شكوكو) وأشهر ما غناه هو مونولوج (ورد عليك) مقابل عشرة جنيهات دفعها المونولوجست النجم عن طيب خاطر.

لكن هذه الروافد الساذجة وحدها لم تكن لتصنع من (الخميسى) ما أصبح عليه، إنما اتصاله المبكر أيضا بأساتذة عصره من أهل الأدب والفكر العميق الرصين، قد صقل الموهبة، ومنحها البريق.

تعرّف (الخميسى) عام 1940 على (خليل مُطران)، شاعر القطرين، وأمير الشعراء بعد (شوقى)، الذى يقول عنه (الخميسى): عندما قرأت لـ(مطران) وجدت ضالتي، وسعيت إليه، وعرضت عليه أشعارى فاستقبلها بالترحاب، وفتح لى مكتبته الخاصة، وكان يختار لى ما أقرؤه، ويناقشنى فيه، وعلمنى تطور الأدب وفن المسرح، بل عهد إليّ بنظم أشعار بعض مسرحياته التى كان يقدمها على المسرح القومي.

كذلك كان لـ(سلامة موسى) دور مهم وجوهرى فى بلورة إدراك (الخميسى) لوظيفة الفن، إذ تعرّف عليه عام 1941، وهو أول من أرشده لفهم الصلة بين الفن والعلم، ووظيفتيهما الاجتماعية فأضاف (سلامة موسى) بُعدًا علميًا ثوريًا للخميسى يُكَمٍّل البعد الإنسانى والفنى الذى بدأه (مطران).

ثم كان اللقاء عام 1940 بـ(كامل الشناوى)، الليبرالى عاشق الحرية الذى عمّق لدى (الخميسى) قبول الناس على اختلاف عقائدهم، وأفكارهم، و أيديولوجياتهم، وكامل الشناوى هو من أطلق على (الخميسى) لقب (القديس)، حين رآه يجود يومًا بكل مرتبه لأرملة زميل له فى الصحافة، وهو يبكى من فرط التأثر بحالها هى و أولادها.