القصة الحقيقية لميلاد صناعة «الأخبار الكاذبة»
صباح الخير
والآن.. هل حان وقت الحديث عن تاريخ الأخبار الكاذبة؟ كلمة «فاك نيوز» المنتشرة هذه الأيام ومنذ الانتخابات التى فاز فيها «ترامب» برئاسة أمريكا، ليست كلمة جديدة، مع أن «ترامب» يدعى علنا أنه مخترعها (!).. فهى كلمة مرتبطة تاريخيا بصناعة الأكاذيب، وهى صناعة كما تدلنا حقائق التاريخ ـ وأكاذيبه أيضا ـ نشأت مع بدء تكوين الدول والصراع السياسى والعسكرى على السلطة، وتقول المراجع إن أول ظهور لكلمة «فاك نيوز» كان فى عام 1893فى رسم توضيحى ساخر فى إحدى الصحف الأمريكية، أى قبل أن (يخترعها) مستر «ترامب» بنحو 123 سنة فقط!
وأقدم قصة أخبار كاذبة رصدتها المراجع التاريخية تعود إلى واحد من ملوك مصر القديمة «رمسيس الأعظم» حيث يقال إنه أشاع وروّج قصصا غير حقيقية عن إنجازاته وانتصاراته فى موقعة «قادش».. والله أعلم.
• ألعوبة كليوباترا
وفى القرن الأول قبل الميلاد ظهرت قصة أخرى من قصص الأخبار الكاذبة ورد فيها أيضا ذكر ملكة مصرية، حيث شن القائد الرومانى «أوكتافيو» حملة من الأكاذيب ضد منافسه «مارك أنطونيو» اتهمه فيها بأنه سكير ويطارد النساء، ليس هذا فقط، بل اتهمه أيضا بأنه ألعوبة بين أصابع الملكة المصرية كليوباترا.
ونشر «أوكتافيو» وثيقة مزيفة بدعوى أنها «وصية أنطونيو» جاء فيها أنه يوصى بدفنه فى المعابد الفرعونية البطلمية عند وفاته، وقد أثارت هذه الأكاذيب الرأى العام والدوائر الحاكمة فى روما، وانتحر مارك أنطونيو بعد هزيمته فى موقعة «أكتيوم» وبعد أن بلغته سلسلة الأكاذيب التى روجها منافسه وأيضا مابلغه عن انتحار كليوباترا.
وبعد اختراع المطبعة سنة 1439 انتشر ظهور الصحف، لكن لم تكن هناك معايير وقيم تحكم الصحافة فى ذلك الوقت ومرت نحو 200 سنة قبل أن يبدأ المؤرخون فى رصد اتجاه الصحف إلى تسجيل أسماء المصادر فى نهاية كل قطعة خبرية، وفى عام 1610 مع محاكمة العالم الإيطالى «جاليليو» زاد الطلب على الأخبار القابلة للإثبات، أو المدققة، وخلال القرن الثامن عشر كان ناشرو الأخبار الكاذبة أو المزورة يعاقبون بالغرامات والمصادرة لمطبوعاتهم فى هولندا، وخلال استعمار بريطانيا لأمريكا كتب أحد زعماء الثورة الأمريكية «بنيامين فرانكلين» أخبارا كاذبة حتى يجتذب الرأى العام لتأييد الثورة، عن مذابح يقوم بها رجال الملك البريطانى جورج الثالث.
• مارى أنطوانيت ضحية الأخبار الكاذبة
وخلال الثورة الفرنسية انتشرت الأخبار الكاذبة ومنها ما نشرته الصحف الساخرة ويطلقون عليها «كانارد» فى سنة 1793 عن الملكة «مارى أنطوانيت» فى حملات متواصلة مع نشر صورها، ويرى المؤرخون أن أحد أسباب إعدام مارى أنطوانيت يعود لحملة الأخبار الكاذبة التى راجت ضدها وتسببت فى كراهية الفرنسيين لها خاصة وأنها نمساوية وليست مواطنة فرنسية.
وتحول اهتمام الصحف من الدعاية السياسية المؤيدة أو المعارضة إلى الطمع فى زيادة التوزيع والانتشار بأى وسيلة بمافى ذلك نشر الأخبار والقصص الكاذبة والوهمية، ففى 1835 نشرت صحيفة «نيويورك صن» سلسلة من الموضوعات عن عالم فلكى وزميل له وكيف أنهما رصدا مظاهر الحياة على القمر، واجتذبت هذه السلسة الاهتمام وزادت اشتراكات الجريدة، لكنها بعد ذلك بشهر واحد اعترفت بالفضيحة وأن كل مانشر لا يمت للحقيقة بصلة.. وكانت هذه نهاية الصحيفة التى تسمى نفسها «شمس نيويورك»!
ووصلت صناعة الأخبار الكاذبة والملفقة ذروة انتشارها فى القرن الثامن عشر فى بريطانيا، عندما بدأت صحافة لندن تروج بين عامة الناس، وفى سنة 1788 كانت تصدر فى لندن عشر صحف يومية وثمانى صحف نصف أسبوعية و9 أسبوعية وكانت تنشر فقط ماكانوا يسمونه وقتها «باراجراف» وهو عبارة عن قصص خبرية يلتقطها المحررون والهواة من صالونات القهوة التى يلتقى فيها شخصيات الطبقة الأرستقراطية، وهى النميمة التى تتردد فى هذه المجتمعات، ويكتبونها على قصاصات ورق يقدمونها لناشر الصحيفة وهو مجرد صاحب مطبعة فيدسها فى أول طبعة، وكان «محرر الباراجراف» يتقاضى أجرا، لكن آخرين لم يكن يعنيهم سوى نشر ماجمعوا و«فبركوا» من نمائم، إذ أن لهم أجندات خاصة، كالانتقام من شخص ما أو لمجرد الرغبة فى التأثير فى الرأى العام ليكون مع أو ضد شخصية عامة ما أو حتى ضد كتاب أو مسرحية!
• وزير ترويج الأخبار الكاذبة!
وتتوالى قصص تاريخ الأخبار الكاذبة عبر العصور وهذا موضوع كتاب أو مجلد ضخم، ومعروف أنه فى القرن العشرين ظهرت صناعة «البروباجندا» أى الدعاية السياسية مع ظهور الكيانات الشمولية فى روسيا والنازية فى ألمانيا ومع انفجار الحربين العالميتين الأولى والثانية وأصبحت هناك فى ألمانيا مثلا وزارة مهمتها فقط نشر الأخبار الكاذبة عن عظمة الزعيم النازى هتلر وعن عيوب وفضائح أعدائه، وهى الوزارة التى تولاها أشهر صانع أكاذيب فى أواسط القرن العشرين «جوبلز».
وإن كان نشر الأخبار الكاذبة قد ساهم فى وصول «دونالد ترامب» لسدة الرئاسة فى أمريكا ونشر الأخبار الكاذبة ضد منافسته «هيلارى كلينتون» قد جعلها تفقد فرصة الفوز وتحقيق إنجاز غير عادى وغير مسبوق فى التاريخ الأمريكى بتولى امرأة منصب رئيسة الولايات المتحدة، ويتردد أن أجهزة صناعة الأخبار الكاذبة التابعة للسلطة الحاكمة فى روسيا كانت وراء ذلك من خلال نشر الأخبار الكاذبة على «فيس بوك» وغيرها من منصات الإنترنت قبل وخلال الانتخابات الرئاسية.
فقد ساهم نشر الأخبار الكاذبة فى إزاحة مرشح رئاسى فرنسى وإجباره على الانسحاب من المنافسة ضد الشاب الذى أصبح أصغر رئيس عرفته فرنسا «إيمانويل ماكرون».
والقصة هى أن صحيفة «كانارد آنشينيه» ـ واسمها يمكن ترجمته كالتالي: «لا أخبار كاذبة» ـ وهى الصحيفة الباريسية المختصة بمتابعة المشهد السياسى فى البلاد ونشر الانفرادات الصحفية السياسية، شنت حملة ضد زوجة المرشح الرئاسى «فرانسوا فيلون» الممثل لتيار وسط اليمين، والذى كان المرشح المفضل خلال استطلاعات الرأى، وادعت الصحيفة أن الزوجة «بنيالوب» كانت تتقاضى أموالا طائلة من الدولة بحجة أنها تعمل كمساعدة لزوجها عندما كان نائبا فى البرلمان، ومع أن عملها هذا قانونى وهناك زوجات لأعضاء فى البرلمان الفرنسى يعملن كمساعدات لأزواجهن، ومع أن المرشح المفضل «فالون» تصدى لهذه الحملة وأثبت أن الأمر قانونى وشائع، إلا أن تأثير الأخبار الكاذبة كان أقوى من كلماته حيث تناقلت هذه الأخبار بقية الصحف، والمثل الشائع يقول إن «الأخبار السيئة أسرع انتشارا».. واضطر الرجل إلى الانسحاب من معركة انتخابات الرئاسة الفرنسية.
•••
نعود إلى كلمة «فاك نيوز» لنلاحظ أن منصة «فيس بوك» أعلنت فى أغسطس الماضى أنها قررت التوقف عن استعمال عبارة «فاك نيوز» واستخدام أخرى بدلا منها هى «فالس نيوز» أى «أخبار مزيفة».. (فالصو) ـ كما نقول نحن بالعامية!
• لكن لماذا؟.. وما الفارق الجوهرى بين العبارتين؟
كتب أحد المحلليين تفسيرا لذلك التبديل فقال إنه بعد أن قلب الرئيس «ترامب» معنى الكلمة فى خطبه وتويتاته ـ رسائله شبه اليومية المتكررة فى منصة «تويتر» فبدلا من كونها تعبيرا عن التضليل والكذب والتزييف فى نشر وترويج الأخبار، حوّلها إلى اتهام يوجهه صباح مساء للصحف ووسائل الإعلام الأخرى التى تكشف أكاذيبه وتعارضه أو تنشر ما لايعجبه، بأنها تنشر «فاك نيوز» أى أن من يعارضه ويخالفه كاذب وملفّق.. حتى أنه أطلق على هذه الصحف الكبرى وفضائيات عالمية إخبارية مثل «سى إن إن» أنها «عدو الشعب الأول»!
الأسبوع المقبل نكمل•