الأربعاء 22 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

رحلة فى ذاكرة زمن فات

جـيل Z يستعيد التسعينيات!

فى قاعة مزدحمة بالحضور، تتدلى من السقف لمبات خافتة تُلقى ضوءها الدافئ على الوجوه المترقبة، وتملأ المكان أجواء تُشبه المقاهى القديمة التى كان يُسمع فيها صوت الكاسيت يهمس بأنغام الزمن الجميل، بينما تتصاعد من بين الآلات موسيقى مألوفة تخرج من أدوات حديثة، لكنها تحمل روح زمنٍ مضى.



على المسرح، يقف مجموعة من الشباب يرتدون أزياء التسعينيات؛ قمصان مزركشة، بنطلونات فضفاضة، ونظارات دائرية كانت يومًا رمزًا للموضة، ومع أول نغمة تبدأ الحكاية، تُعزف موسيقى من زمنٍ قديم، لكنّها تبدو كأنها عادت للحياة من جديد، الجمهور يُصفّق ويغنى ويبتسم، كأن اللحظة فتحت له بوابة زمنية أعادته لطفولته أو لمراهقته الأولى.

تلك هى فرقة «كاسيت تسعين».

 

 

 

مجموعة من شباب جيل زد الذين قرروا العودة إلى الوراء، لا بدافع الحنين إلى ماضٍ لم يعيشوه بالكامل، بل لأنهم وجدوا فيه شيئًا مفقودًا فى الحاضر السريع والمزدحم.

بدأت فكرتهم من حب مشترك للموسيقى القديمة، ولتلك البساطة العفوية فى ألحان وأغانى التسعينيات، فكوّنوا معًا فريقًا يُعيد إحياء تلك الأغانى ويُقدّمها بروح جديدة، ما زالت تحمل عبق الزمن الجميل.

 

 

 

كل حفلة بالنسبة لهم ليست مجرد عرض موسيقى، بل رحلة فى الذاكرة، انتظار لتلك اللحظة التى يصعدون فيها على المسرح، فيعودون معها إلى زمن بسيط، حين كانت الأغنية تُسمع على جهاز كاسيت فى غرفة صغيرة، لا عبر سماعة رقمية فى عالمٍ مزدحم وسريع الإيقاع.

يقول عمر سعيد، قائد ومغنى الفرقة: «بدأنا الفكرة من حبنا للجيل ده، أغانى التسعينيات كانت فيها روح مختلفة، مش بس مزيكا حلوة، لكن فيها إحساس. كنا دايمًا بنتكلم كأصحاب إن الزمن ده مكنش فيه ضغط ولا سرعة، فقررنا نعيش جوه الحالة دى ونخلى الناس تعيشها معانا».

ويضيف عمر أنهم لا يستعيدون فقط الأغانى القديمة، بل أسلوب الحياة كله من طريقة اللبس إلى الأداء على المسرح وحتى الديكور فى حفلاتهم.

فهم يرون فى التسعينيات رمزًا للراحة والصدق والبساطة، أشياء فقدت بريقها فى عصرٍ يحكمه الإنترنت ومواقع التواصل.

 

 

 

بينما تقول هدير الجمل، عازفة الدرامز فى الفرقة: «أكتر حاجة بحبها فى الفترة دى إنها مكانش فيها نت، وكل الناس كانت قريبة من بعض. كانت أكتر فترة رايقة وطلعت أحلى أغانى، وده اللى حابة أوصله عن طريق الفرقة».

وتتحدث هدير كأنها عاشت تلك السنوات بالفعل.

رغم أنها من جيل لم يعرف الحياة بدون الإنترنت، فإنها تحاول أن تنقل إحساس تلك المرحلة التى تراها مختلفة ومليئة بالدفء الإنسانى.

تضيف هدير قائلة:

«بنختار الأغانى حسب مدى ارتباط الناس بيها وحبهم ليها، وإنها بتفكرهم بذكريات وحنين للماضى، وطبعًا لازم يغنوا معانا فيها».

تلك المشاركة بين الفرقة والجمهور هى أحد أسرار نجاحهم. فحفلات «كاسيت تسعين» لا تعتمد على العرض وحده، بل على التفاعل الحى بين الشباب الذين يغنون على المسرح والجمهور الذى يجد نفسه فى الكلمات القديمة. وكأن الأغانى أصبحت وسيلة لإعادة الروابط التى فقدها هذا الجيل وسط زحام التكنولوجيا والسرعة.

تتابع هدير: «أنا من زمان بحب الأغانى دى، وكان ليها معانى وذكريات مرتبطة بيا من صغرى بما إنى من مواليد الفترة دى».

 

 

 

أما شيماء يسرى، مغنية الفرقة، فتبدو أكثر اندماجًا مع فكرة العودة للماضى.

تقول شيماء بابتسامة وهى تتذكر لحظة على المسرح: «أكتر أغنية بحبها على الاستيدج من أغانى التسعينات وبحس إنها بتعبر عن شخصيتى هى أغنية (مش نظرة وابتسامة) للفنانة سيمون».

ثم تضيف بتأمل: «أغانى التسعينيات مزيكا ونوع مختلف من الأغانى اللى تخلى أى شخص فى مختلف الأعمار يتجاوب معاها ويحبها... لا هى موجودة فى العصر اللى قبلها، ولا هى موجودة حاليًا فى عصرنا. فهى بالنسبة لى حقبة مختلفة تخلينى أغنى وأنا مبسوطة، وعايزة أحفظ وأغنى أكبر قدر من الأغانى دى، وده طبعًا من اختلافها».

تتحدث شيماء بحماس وكأنها تشرح فلسفة كاملة، فالتسعينيات بالنسبة لها ليست مجرد فترة زمنية، بل حالة شعورية نادرة يصعب تكرارها، وهى تحاول من خلال صوتها أن تجعل الجمهور يعيش تلك الحالة، حتى لو لم يولد بعضهم بعد فى تلك السنوات.

وتكمل حديثها: «أوقات كتير فعلًا الجمهور بيغنى الأغنية كاملة من غير ما أنا أقول حاجة... زى مثلًا (بتونس بيك) للفنانة وردة. وفعلًا أنا هنا بحس إنى عشت ذكرياتهم هما... اللى حاسينها وهما بيغنوا الأغنية بجد، وساعات أنا بقعد أهزر مع الجمهور وأقول أنا عايزة أسمعكم انتوا بقى، وفعلًا بلاقى الأغنية اتغنت بروح وبهجة واندماج حلو أووى».

كلمات شيماء تصف حالة نادرة من التواصل بين الفنان والجمهور، ذلك النوع الذى يتجاوز الحاضر والزمن، ليجمع بين أجيال مختلفة حول ذكرى واحدة.

عودة لعمر قائد الفرقة الذى قال إن العودة للتسعينيات ليست مجرد «نوستالجيا»، بل طريقة للتعبير عن الذات بطريقة صادقة وبعيدة عن الضوضاء الرقمية.

يقول: «إحنا مش بنعمل ده عشان موضة أو عشان الناس تحب القديم، لأ، إحنا بنعيش فيه. بنلبس زيه، ونسمع الأغانى دى طول الوقت، لأنها بتخلينا نحس بالراحة. مفيش تصنع، مفيش فيك. كل حاجة كانت بسيطة وصادقة».

ويضيف: «أنا دايمًا بقول إننا بنحاول نعيد الزمن ده مش فى المزيكا بس، لكن فى الروح. لما بنطلع المسرح، بحس إننا مش بنغنى، إحنا بنعيش الفيلم اللى كنا بنتفرج عليه زمان».

تنعكس كلمات عمر على طريقة تفاعل الجمهور معهم. فحفلات الفرقة تشبه رحلة جماعية إلى الماضى، حيث يترك الجميع هواتفهم المحمولة لبعض الوقت ويندمجون فى الغناء، ولا توجد فواصل بين من على المسرح ومن فى الصفوف الأولى، فالأغانى تتحول إلى مساحة مشتركة تجمعهم على بساطة الحياة وجمالها.

فى كل حفلة، يختار الفريق مجموعة من الأغانى التى تحمل طابعًا خاصًا، فهم لا يسعون إلى إعادة تقديمها بحذافيرها، بل يمنحونها لمسة معاصرة خفيفة دون أن يفقدوا هويتها الأصلية، ويشرح عمر تلك الفكرة قائلًا: «إحنا مش بنعمل كوبى من الأغانى، إحنا بنغنيها على طريقتنا. بنحافظ على روحها، بس بنضيف حاجات صغيرة تعبر عن جيلنا. كأننا بنحط بصمتنا من غير ما نمسح بصمة اللى عملوها قبلنا».

التوازن بين الأصالة والتجديد هو ما جعل «كاسيت تسعين» مميزة فى المشهد الموسيقى المستقل، فهم ليسوا مجرد مقلدين لزمن مضى، بل جيل جديد يعيد صياغته من زاوية مختلفة.

شيماء يسرى قالت فى نهاية كلامها:

«بحس إننا مش بس بنغنى أغانى تسعينات، إحنا بنغنى لروحنا اللى مفتقدينها. يمكن الناس بتفتكرها مجرد حفلة، بس بالنسبالى هى حالة فرح حقيقية».

ويبدو أن نجاح «كاسيت تسعين» لا يعتمد فقط على إتقانهم الفنى، بل على صدقهم فى ما يفعلون. فوسط عالم مليء بالضوضاء الرقمية والسرعة المفرطة، قرر هؤلاء الشباب أن يبطئوا الإيقاع قليلًا، أن يستمعوا إلى الألحان التى تربت عليها أجيال سابقة، وأن يلبسوا الجينز القديم ويغنوا من القلب.

جيل وُلد فى عالم الشاشات والإنترنت وثورة الموبايل، لكنه وجد ذاته فى موسيقى الكاسيت، فى زمن كانت فيه الأغنية تُسمَع لا لتملأ الوقت، بل لتملأ الروح.