الأربعاء 30 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حريات صغيرة

ريشة: سوزى شكرى
ريشة: سوزى شكرى

تزاحمنى الطيور الوليدة إذ نحتضن أضلعه التى اتسعت لنا جميعًا.



أندس فيما بينهم، لا أصدق أن أبى لم يكن أبًا لى وحدى، وأن له زوجات من العصافير، والحمائم واليمامات والكروانات.

وبالتأكيد أمى لا تعرف.

ننثنى على أظافره المربعة التى تشبه البيوت، ونرسم أحلامنا، نطير بعيدًا ثم نعود، وقد حملنا فى ثغورنا أعواد النعناع، وأوراق الورد، وما وجدناه من قش وريش، ونقيم على أظافره أعشاشنا الآمنة، وكان لا يحرك أصابعه كرامة لنا، وندرك على صغرنا حاجته للطعام بعد أن أنفقنا الساعات والأيام على يديه لا نبرحهما، فنلقمه مما نلقط من حب، أحيانًا الأرز، وأحيانا الخبز المبثوث فى الماء لقيمات، يفتح فمه، ويلتقم ما نعطيه.

تقاسمنا معه السكر والملح، وكنا نبث له ذرات الدقيق فى أشكال يحبها، كان أبى طفلنا الوحيد، ونحن جميعا طيوره التى يأبى أن يضعها فى أقفاص، رأيته وهو يهشم بيديه الأقفاص الخشبية التى صممها له صاحب بنية الحمام التى تعلو عمارتنا، أبى دكَّ الأقفاص دكًا بيديه وقدميه، حتى «البيوضة» التى يقول عنها صاحب البنية أننا سنفر إليها بالضرورة فى موسم الزواج قال له أبى عنها بصوت عال: ليست الأقفاص للطيور.

وأشار بيده إلى السماء وكنا لم نزل فوق أظافره المربعة التى تشبه البيوت نحتسى أحلامنا وكان أبى يقول لنا ساعتها:

- رفرفوا.. رفرفوا إنما الحياة جناح ورفرفة

فينظر إلينا صاحب البنية فى دهشة ويقول لأبى غاضبًا:

- أنت حر، طول عمرنا نربى الطيور فى أقفاص

- إذن لما تركت حمامك حرًا فى سماء الله؟

- لأن الحمام يعود إلىَّ، يطير ويعود إلىَّ

 

 

 

- طبعًا، تبيعه ويعود إليك، ثم تبيعه ثانية ويعود إليك، نَصَّاب يعنى!

- وما ذنبى أنا؟ الحمام هو الذى يعود إلىَّ، ثم طفق يغنى بخفة «زى الطير ما تعوده عشه»، اتعود علىّ، واتعودت عليه.

يتأمله أبى فى صمت، بينما ننحنى على أصابعه نُقبِّلها فنقبِّل أعشاشنا، لكن صاحب البنية يقسم لأبى: - والله يا حاج، ومالك علىّ حلفان، الطيور التى تعطف عليها غدَّارة.. غدَّارة، وقول من هنا للصبح!

تطلع إليه أبى فى دهشة، وتطلعنا إليه، فصار صاحب البنية يغنى متظرفًا: «يا بت يا اللى حمامك طار/ قومى اعمليله بنية/ عملتها له سبع أدوار/ شبابيكها كلها بحرية/ آخرتها طار ولا حَنَّ عليّا»!

ابتسم أبى لأول مرة، وهو يضم جناحه علينا.

كان مزاجه رائقًا ساعتها، تذكره الأغنيات بصوت أمى، وهى تغنى له فى ساعات الصفاء بصوتها الناعم، الأغنية التى يحبها، والتى تذكره بأيام الخطوبة «حمامة بيضا/ ومنين أجيبها؟/ طارت يا نينة عند صاحبها/ بتطير وتجينى/ قاصدة تسلينى/ طارت يا نينة عند صاحبها، أصله يا نينة يعرف لُغاها».

يهمس أبى: كان للحب أيامنا حلاوته، كان فيه وفا، ودفا وعصافير وحمام وشقشقة.

هزَّ صاحب البنية رأسه:

- حلوة شقشقة دى يا حاج!

كنا نتأمل هذه الخبرات التى لم نمر بها، الحمام الهارب من بنية شبابيكها بحرية، والبنت التى تشكو غرامها لجدتها.

كنا نسمع ونرفرف، تصطفق الأجنحة فيميل أبى إلينا، يحرك يديه بهدوء، ويذوِّب لنا السُكَّر فى فنجان صغير، يضع الملعقة بين إصبعيه، ويدور بها فى الكوب الذي تشقق عسلا فنحسو حسوة إثر أخرى ونحن نتأمله فى سعادة.

عاد أبى يقول لصاحب البنية:

- لا أخفيك سرًا، عندى يمامة باضت فى البلكونة، كنت أضع لها بعض الحب، ولا أعرف متى تأتى؟ - وهل فقس البيض؟

- تركته اليمامة فى رعايتنا.

- نصيحة يا حاج.. هات البيض أرقَّد عليه حمامة من عندى، بايضة من يومين.

 

 

 

- ونسرق أمومة واحدة ونعطيها لواحدة ثانية؟

ضحك صاحب البنية وضرب كفًا بكف.

- وافرض بقى زاركم طير جارح، وأخذ البيض فى فمه وطار؟!

رفع أبى حاجبيه دهشة، وانتبهنا، طرنا من على أظافره المربعة التى تشبه البيوت إلى مكاننا الأثير بين أضلعه.

قال أبى: فالا الله، ولا فالك، من حق اليمامة أن تعود فتجد بيضها آمنًا فى حِمانا، استأمنتنا عليه يا أخى! ضحك صاحب البنية ساخرًا:

- طيب أنا هو، وأنت أهو.

مضى الرجل، وأخذنا أبى إلى البلكونة لنطمئن على وديعتنا بمجرد أن فتح باب البلكونة سمعنا خفق جناح قوى، توجس أبى وتوجسنا، لكننا لم نر صاحب الخفْق، نحنى أبى وحدّقنا معه فى البيضتين، كانت إحداهما مشروخة، والأخرى مثقوبة بمنقار قوى، كلاهما خاليتان من ماء الحياة، مفرغتان بفعل فاعل!

قال لنا أبى بأسف: سرق الغراب ماء الحياة، ليتنى أطعت كلام صاحب البنية!

قلنا فى صوت واحد: وعندما تعود اليمامة الأم فلا تجد بيضها؟!

رمقنا أبى بنظرة حزينة: وهاهى ستجده مكسورا، خسرت أمومتها بسبب طائر انتهب ماء حياتها فى لحظة! تبادلنا نظرات الحيرة، ولم نستطع أن نخبر أمى بما حدث فور عودتها من السوق، كانت قد اشترت طعاما مخصوصًا لعصافيرها «البادجى»، وسمعنا صوتها يغرد عندما فتحت أمى حنفية الماء فى المطبخ، وتغرد عندما غلست الصحون، وتغرد عندما تجففها وترشقها برفق واحدا واحدا فى «المطبقية» ثم عادت «البادجى» تغرد على صوت المكنسة عندما دارت أمى بها دورة واحدة أو اثنتين على سجادة الصالة، وعندما توقف صوت المكنسة، نزلت «البادجى» من عليائها لتبل ريقها من المسقى، حمل أبى بيض اليمامة المكسور والمثقوب على يديه ليريه لأمى فطالعته بأعين فزعة:

- لن تأمننا اليمامة ثانية على بيضها.

.. ظللنا نترقب عودة اليمامة إلى البلكونة، هل ستأتى ثانية؟ وتلقط الحب من على سورها، هل تتجاوز هذه النقطة الحرجة على الحافة، وتعبر سور البلكونة إلينا؟ هل سنراها مرة ثانية آمنة فى رحابنا؟

كنا نتحرك كل يوم تحت أجنحة أبى لنراها، تشابه علينا اليمام فلم نعرف هل زارتنا ثانية؟

.. وذات صباح وجدنا بيضتين فى مكان آخر من البلكونة وضعته يمامة فوق مزيج من فروع الورد والنعناع، وبعض المسامير الرفيعة أصابتنا الدهشة لوجود المسامير!

قال أبى: لعلها تعلمت من تجربتها السابقة فوضعت المسامير الرفيعة لتخوف الطائر السارق فلا يرنق ماءها.

- لن ندع البيض له ثانية، سندخله إلى بيتنا.

قالت أمى: وماذا سنفعل به؟

تفكر أبى، لكن لم يكن لديه أى نية لإعطائه لصاحب البنية قالت أمى باسمة:

- سأرقد عليه أنا.

اتسعت عيوننا دهشة، وهى تحكى عن مشهد استعادته من عالم طفولتها، كان لجدتى وهى تحتضن بيض إوزتها الراحلة قالت: «دخلنا على ستكم، فوجدناها نائمة، وثدياها مثل هرمين كبيرين، عاليين، كانت قد لفت بيض الإوزة فى منديل محلاوى كبير، ووضعته تحت ثدييها، فى دفء حنانها، فلم تتقلب لا يمين ولا شمال، نامت مثل الألف، كخط مستقيم حتى فقس البيض، واندفعت إوزتان صغيرتان من صدرها إلى سريرها».

ضحكنا.. إلا أن أمى كانت جادة فى عزمها.

تساءلنا: كم يومًا ستظلين نائمة به هنا؟!

قالت: غدًا آخذ إجازة فقس!

ضحكنا، وأمطرناها قبلاً.

فقالت: كل واحد حر، يأخذ إجازته كما يريد، إجازة بحر، إجازة عارضة، إجازة وضع.

.. وفى الصباح ضمَّنا أبى بقوة تحت جناحيه كما يفعل دائمًا منتظرًا عودتها، بينما تطلعت زوجاته من العصافير والكروانات إلى سرير أمى، إلى العش الذى ينتظر فى شوق ميلادا جديدا.. يمامات وليدة تشبه أمى بوجهها القمرى، وثغرها العذب، وشعرها ذاك الطويل، وأجمل ما لديها من أجنحة.