
رشاد كامل
صلاح حافظ طالب الطب ومدرسة فن القصة!
منذ كان الأستاذ «صلاح حافظ»، مايسترو الصحافة المصرية، طالبا فى كلية الطب، كان حديث الأوساط الأدبية والثقافية.
وخاض معركة أدبية وكان لا يزال فى السنة الثالثة بكلية الطب.
الحكاية رصدها الأديب الكبير والناقد «عباس خضر» فى كتابه الممتع «ذكرياتى الأدبية» وكان وقتها سنة 1949 يكتب فى مجلة الرسالة.
وبتاريخ 18 أبريل سنة 1949 كتب عباس خضر فى مقال عنوانه «مدرسة حديثة فى فن القصة» يقول:
«لا تقر فضل الخير على الشر ولا تعترف بفارق بين الفضيلة والرذيلة، ولا تميز الحق من الباطل، أية نزعة من نزعات الإنسان عندها كأية نزعة أخرى: لا تقول للص يا لص! ولا تقول للبطل يا بطل! لأنه لا جريمة ولا بطولة فلكل عمل دوافعه ومقدماته، وكل ما يأتيه الإنسان أمر طبيعى لا ينبغى الحكم عليه ولا يجوز أن يستنكر»!!

بهذه السطور يبدأ المقال ثم يكمل عباس خضر قائلا:
هى مدرسة حديثة فى فن القصة ظهرت فى مصر، وأعلنت صوتها يوم الأحد الماضى فى «نادى رابطة الأدباء» على لسان الطالب الأديب «صلاح حافظ» الذى ألقى محاضرة دعا فيها دعوة هذه المدرسة، وأعلن ميلادها فى «زهو».
■ ■
ويمضى الأستاذ «عباس خضر» فى مقاله المدهش فيقول:
والزعيم أو الكاتب القصصى الأول فى هذه المدرسة الحديثة هو الأديب «محمد يسرى أحمد» وأعلام المدرسة وأنصارها والمتحمسون لها يجتمعون فى واحد هو مُحاضرنا الأديب «صلاح حافظ»، وهما طالبان بالسنة الثالثة بكلية الطب، إنهما يشرِّحان الإنسان الحى كما يُشرَّح الإنسان الميت فى قصر العينى، هل يأبه الطبيب للغازات أو يأنف من روائح الجثث؟
كذلك كاتب القصة، يحلل الإنسان كما هو ويتغلغل فى أعماقه ليصورها كما هي! فإن قلت إن غاية الطبيب المشرح الوصول إلى الحقائق العلمية قالت لك المدرسة الحديثة فى فن القصة إنها لا غاية لها، فالكاتب يجب أن يبدأ القصة ويسير فيها مع الطبيعة لا يهدف إلى شيء! فإن قلت إن الطبيعة لا تعتسف طريقها فهذا هو الفارق بين الطبيعة وبين المدرسة الحديثة!

ويعلق «عباس خضر» على السطور السابقة بقوله:
- «يظهر أننى تأثرت بمذهب هذه المدرسة فى عرض الأشياء كما هى وإبراز الإنسان كما هو، فإنى أتحدث عنها كما هى، وإتمامًا للخطة أضربت فى هذا الموضوع عن استعمال علامات التعجب لأنها تدل على الانفعال وقد تشير إلى الحكم وأستمر فى السير على هذه الخطة فأقول:
- حدثنا المحاضر «صلاح» فقال إن المدرسة الحديثة قد اكتسحت كل ما عداها وأحرزت نصراً مؤزَّرا فى مسابقات القصة المختلفة ففاز «يسرى» بقصة فى مهرجان الشباب، وبأخرى فى مسابقة الإذاعة وبثالثة فى مسابقة الثقافة العامة، وفاز هو- أى صلاح- بقصة فى المسابقة الأخيرة.
وليس هذا هو كل إنتاج المدرسة الحديثة، فقد كان ليسرى فى مهرجان الشباب قصة غير التى فازت تحدث فيها عن حادثة غرام بين فنان وأخته وحلل العوامل التى جعلت بطل القصة يفتن بمحاسن أخته ويستمتع بجسدها ثم يقتلها، ولم يعجب ذلك الاتجاه النفسانى فى فن القصة شيوخ الأدب المحكمين فى المسابقة فرفضوها! وقال إن الأستاذ عبدالله حبيب «مدير إدارة رعاية الشباب» قرأ هذه القصة وأنه دافع عنها أمام لجنة التحكيم، وقد سمعت أنا أيضا ذلك من الأستاذ عبدالله».

وأنا ما زلت أتحدث على طريقة المدرسة التجريدية، ولكنى وصلت إلى نقطة أرانى مضطرا فيها إلى الخروج مع المدرسة نفسها عن طريقتها، فشيوخ الأدب جامدون لا يقدرون الاتجاه النفسى الجديد لأنه يخالف اتجاههم، فالشيوخ يتحدثون عن جمال الربيع ولا يهتمون بالإنسان فإذا عرجوا عليه لزموا السطوح ولم ينزلوا إلى الأعماق، كما يقضى بذلك علم النفس، وكما تفعل ذلك المدرسة الحديثة.
وقرأ المحاضر- صلاح حافظ- فى هذا المعنى رسالة كتبها يسرى إلى الأستاذ «فريد أبوحديد بك» ومن فقراتها: «لا يا سيدى نحن جيل وأنتم جيل»!
■ ■
الغريب أن الأستاذ عباس خضر لم يغضب أو يسخط على ما يقوله الشابان «يسرى» و«صلاح حافظ» بل التمس لهما العذر قائلا:
- هكذا يقضى الشيخ بفوز قصص المدرسة الحديثة فى المباريات وتعتز المدرسة بذلك ثم تهاجم الشيوخ الذين حكموا بفوز قصصهما. أقول هكذا فقط ولا أذكر الوفاء ولا الاعتراف بالجميل، فليس شيء من هذا فى معجم المدرسة الحديثة فى فن القصة!

أما لماذا قضت لجان التحكيم فى المباريات بفوز تلك القصص، فقد قال أحد أعضائها وهو الدكتور «إبراهيم ناجى» فى تعقيبه على المحاضرة، إن القصص التى اختيرت فازت لأن بقية القصص المقدمة تافهة ليس فيها شىء من فن القصة بل هى حكايات و«حواديت»!
وجريًا على مذهب تلك المدرسة فى العطف على الضعف الإنسانى وإن جانب الذوق السليم واندفع مع الحيوانية السائمة، لا أريد أن يتجه القلم إلى القسوة على بطليها، غير أننا نختلف فى أن لرفقى بهما غاية.
إنكما يا ابنى تتعجلان، وأنى وإن كنت لم أقرأ لكما يبدو لى من الملابسات والقرائن أنكما من ذوى الاستعداد ويمكن أن يجىء منكما، ويدل ما يقول الأستاذ «عبدالله حبيب» عن قصة عاشق أخته على براعة «يسرى» فى السياق والحبكة لكن ما أشبه حال الأستاذ وهو يقرأ القصة غير شاعر بأن فيها جريمة ترتكب بمن «نشلت» حافظة نقوده وهو لا يدرى.
ويمضى الأستاذ «عباس خضر» ناصحًا لهما فيقول:
أن مناقضتكما للأخلاق الكريمة بهذه الدعوة مناقضة ظاهرة وأنتما لا تنكران ذلك وإنما تتمسكان بأهداب الفن وأنا لا أدرى كيف يتسق الفن مع مخالفة الذوق السليم وإغفال المثل الإنسانية والانسياق مع الحيوانية البحتة! وما هو الفن الذى يتجرد من العاطفة؟ إن تحليل الأشخاص وإظهارهم دون انفعال وحكم عن طريق التصوير الفنى على ما يأتون وما يدعون لا ينتج إلا شيئا قد يسمى «علم النفس تطبيقيا، أما عن الفن فلا بد فيه من عاطفة الفنان. فإن تجرد منها فليس فنانا والعاطفة فى العمل الفنى إما أن تهدف إلى الخير وتتجه نحو الجمال الذى يهفو إليه الذوق الفنى السليم، أو تنزل إلى الشر وتتدلى إلى القبح!
وفى نهاية المقال المنشور فى مجلة الرسالة يقول:
«أريد أن أفرض فى شأن هذين الشابين أحسن الفروض، وهو أنهما يتكلفان الشذوذ على طريقة «خالف تُعرف» ولا بأس بأن حققت لهما شيئا من ذلك، وغاية ما أرجو أن يكون الثمن هدايتهما إلى سواء الأدب القويم»!
وفى الفصل الأول من ذكرياته التى كتبها فى مرحلة لاحقة على مقالاته فى مجلة الرسالة يكتب عن ندوة الشاعر الدكتور «إبراهيم ناجى» والتى أفسح فيها للأدباء من الأعمار والاتجاهات المختلفة ويقول:
كان يؤمها كثير من الشباب مستمعين ومتحدثين أذكر منهم شابين أوشكا أن يكونا مدرسة أدبية ثائرة لولا انشغالهما باهتمامات أخرى.. وهما «أحمد يسرى» و«صلاح حافظ» الطالبان -إذ ذاك- بكلية الطب، نبغا فى كتابة القصة القصيرة.
كان للشابين الصديقين «أحمد يسرى» و«صلاح حافظ» دعوة ثورية فى الأدب، عبر عنها «صلاح حافظ» فى محاضرة برابطة «ناجى» وقد بقيت فى ذاكرتى ملامح من هذه الدعوة الثائرة على أدباء الجيل من حيث دورانهم حول قيم موروثة ثابتة واهتمامهم بتصوير الطبيعة دون أن ينفذوا إلى أعماق الإنسان الجدير بأن يكون كل جهد أدبى فى خدمته وتحليله، وكان الخطير فى هذه الدعوة الاتجاه إلى التحرير المطلق الذى يرمى إلى طرح الموروثات الأخلاقية والاجتماعية وفى ذلك انعكاس لمذاهب أوروبية مثل الوجودية والواقعية الطبيعية لكن فى صياغة جديدة تتجه إلى الثورة على اللوحات الثابتة فى الأدب المصرى.
عرضت تلك الآراء فى كتابتى بالرسالة- المجلة- فى شيء من الاندهاش مع ميل قليل إلى «التفنيد».. ورد علىّ «صلاح حافظ» ونشر رده مبتورًا، إذ عمل قلم «الزيات» (صاحب ورئيس تحرير مجلة الرسالة) فى حذف ما رآه متطرفًا أكثر من المقبول..
وفى مكتب «عبدالله حبيب» اجتمعنا، وأعرب حافظ ويسرى عن تأثرهما لما حُذف من الرد، وما زلت أذكر قول صلاح:«إنها معركة الأسلحة فيها غير متكافئة»!