الأربعاء 30 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ماذا يحدث فى خان يونس؟

«يوسف أبيضانى شعره مليح.. وهذه أمى بعرفها من شعرها.. ضلوا يجوا لى بالمنام.. لكن ما بعرف شو عم باعمل.. ماتوا بالقصف». 



هذا ما قالته سلسبيل.. إحدى فلسطينيات غزة.. من خان يونس التى حاورتها صباح الخير.. بعد نجاح نزوحها من خان يونس إلى جنوب غزة.

 

هنا بعض حكايات من الألم مخلوطة بالصبر، تمت اليكترونيا على مراحل كلما سمحت الظروف، وكلما عادت شبكة الإنترنت. 

كل حكاية منها.. يصاحبها مجموعة من المشاهد المأساوية، حيث توحشت الآلة الإسرائيلية الحربية فلم تفرق بين شيخ وبين سيدة.. أو حتى الأطفال. 

تحكى سلسبيل: «مشاهد كثيرة صعبة.. تمر فى ذاكراتنا، أكثر مما هى فى الواقع، نستعيدها كلما سمعنا صوت سيارة إسعاف.. وسط بكاء الأطفال، وصريخ الأمهات والآباء».

تكمل: «دق أبواب سيارات الإسعاف بات أسوأ ما يمكن أن نسمعه.. لأنه يعيد بنا الوقائع ويستعيد بنا المأساة التى نعيشها مع أهلنا فى غزة».

 

 

 

حكت سلسبيل عن المسعفين الذين يركضون هنا وهناك، رغم أنه لا أمل لإسعاف أحد فلا مستشفيات ولا أدوية.. ولا أجهزة للعلاج.. تكلمت عن مناظر الشهداء والمصابين التى أصبحت معتادة، وتكلمت عن فقدان الأقارب والآباء والأمهات والأخوة الصغار.. فى حوار خاص لصباح الخير.. وحكايات تقطع القلب. 

القصف صباحا

قالت سلسبيل كامل وهى طالبة ثانوى بإحدى مدارس قرية عبسان : «فى أول الأيام بعد استئناف القصف الإسرائيلى، انبعثت الصيحات وأصوات الانفجارات منذ الصباح الباكر، حيث استيقظت على صوت القصف القريب الذى هز منزلى. وبينما كنت على سريرى انتبهت إلى ارتجاج المنزل وسقوط جزء من الشباك فوقى، لكن بلطف الله لم يتسبب القصف فى حدوث أذى لى». 

تقول: «بسرعة نهضت وأيقظت أخواتى وسرعان ما قمتم بارتداء الملابس وتجميع أغراضى .. وبينما كنا نستعد للمغادرة.. تأخرت سيارات النقل.. مما جعلنا تننتظر لساعات».

«فى هذا الوقت.. تفاجأت بخبر تهجير مدينة عبسان بأكملها، وكنت قد فقدت كل مأوى آمن.. وفقدت أمى واثنين من إخوتى الصغار.. وقررت أسرتى الانتقال إلى إحدى المدارس.. التى لم يعد لنا أمامنا ملاذ».

تقول: «قال والدى.. إن علينا الذهاب إلى هناك حتى ولو مشيا على الأقدام.. لملمت شتاتى وصحبت أسرتى ورجعنا إلى المدرسة التى تأوى النازحين».

أكملت: «بينما كنا نسرع فى الذهاب إلى المدرسة، شاهدت لأول مرة «عبسان» خاوية تمامًا.. ولما وصلنا إلى المدرسة بعد مسافة طويلة ومرهقة، ورغم  أنى أعانى من مرض الربو إلا أن قوة الإرادة والتحمل كانت هى التى أوصلتنى بسلام مع باقى أسرتى».

 

 

 

لحظات الفزع

مرت سلبيل مع شانها شأن أهل غزة كلها بلحظات كثيرة ودقائق طويلة من الترقب والفزع.. لم يعد الخوف كما قالت «إحساس غريب.. وتكمل: «من مدرسة الإيواء.. شهدنا قصفًا آخر قريبًا.. تجسدت لحظات الخوف والنجاة خلال تلك الساعات الأولى من استئناف الحرب، ورغم الصعوبات بقينا أقويا لأننا كلنا أيقنا أنه لم يعد أمامنا إلا الصبر».

وبصوت يمزج بين الأنين والاحساس بالظلم تسترسل حديثها قائلة «الوضع الذى نمر لا يمكن وصفه.. لكنه يجعلنا نظهر قوةً وإصرارًا استثنائيين.. التحولات الجذرية فى الحياة قد تفاجئنا بقوتنا وقدرتنا على التكيّف والصمود.. هكذا كان يقول أبى دائما». 

يغلق الخوف مسام الجلد.. لكنه كما قالت سلسبيل، وعلى صغر سنها «جعلنا الخوف نفكر كثيرا فى الحياة ومعانيها.. وما بعدها».. وتكمل: «من خلال تجاربنا، نمتلك القدرة على فهم معاناة الآخرين بشكل كبير.. الصمود أمام الصعوبات وعدم السماح للظروف بتحديد مسارنا يظهر قوتك الحقيقية.. أيضا هذا ما كان يقوله لنا ابى دائما».

تقول سلسبيل: «عشت تجربة اللاجئين والاحتمالات الصعبة وتحمل الضغوط النفسية والجسدية، واختبرت أكثر من مرة قدرتى وقدرة من حولى على التحمل والصمود. والقدرة على مواجهة تلك الصعوبات بكل شجاعة .. ربما تكون موهبة من الله».

تقول سلسبيل: «مما أصبحت اعتاد على سماعه من أهلى.. أننا دائما فى عداد الشهداء لا ندرى بأى أرض نموت.. شاهدت ما لا يتحمله بشر أشلاء وجثث.. وتحولت حياتنا إلى قصف مستمر.. وموت مستمر.. تم قصف قريتى بأكملها وحتى بيتى. حتى بعد نزوحنا إلى المدرسة التى ظننا فيها الأمن.. فى يوم وليلة تحولت المدرسة من ساحة تعليم إلى ساحة قتل على التوالى».

مازالت سلسبيل من الآن ضمن النازحين.. تتمسك بالأرض كما قال أبوها إلى آخر رمق.. والى آخر نفس فى صدرها.. تقول: «لن نذهب إلى أى مكان آخر.. سوف نموت هنا أن كان قد كتب الله علينا الموت الآن».

عن يومها تقول: «استيقظ من نومى، وأنتظر دورى فى الحصول على مياه الشرب أو حتى الوضوء.. أغلب الأوقات نتيمم.. وننتظر دورنا فى الشهادة.. فان لم يكن اليوم فلابد إنه غدا».

 

 

 

 

نصر قريب

تواصل « سلسبيل »: قريتنا تحولت إلى نار.. لا اتصالات فى قريتنا.. ولا إنترنت.. لا نستطيع شحن التليفون أغلب الوقت.. لأنه لا كهرباء.. طبعا إضافة إلى أنه لا ماء من الأساس.. انعزلنا عن العالم.. نعرف ما تشعرون به فى مصر وما تقدمونه لنا.. ونحن دائما مؤمنين بأن نصر الله قريب». 

تقول: «قبل أيام.. ونحن هنا فى الجنوب، بعدما أبلغتنا قوات الاحتلال الصهيونى بالتراجع محذروة من العواقب إذا ظللنا على أرضنا فى عبسان.. قالوا فى رسائلهم التى ألقوها علينا من الطائرات «أعذر من أنذر».

حتى المدرسة التى أوينا إليها الآن.. الدبابات تحاصرها واستهدفها القصف المدفعى أكثر من مرة.. سقط الكثير من الشهداء والجرحى.. كان لى صديقة عزيزة رحلت معى.. الآن لا أعرف مكانها.. ولا أعرف مصيرها.. هل هى بين الشهداء أم لا؟ دموعى لم تجف عليها للآن».

بعد نزوحنا إلى الجنوب.. الأماكن مكتظة بالفلسطينيين.. ولا توجد مساحة خالية.. من أسرة فقدت أكثر من فرد فيها.. الخيام تمتد فى الشوارع.. أصبح كثيرون منا يفضلون الاستشهاد على تلك الحياة .. ولو أننا نعود.. ونستغفر الله» 

هدأت سلسبيل وقالت: «قد تكون الأيام صعبة، لكن كلنا مؤمنين بأننا سنعود يوما إلى أراضينا». 

أما «ريماس».. فهى أم لأربعة أطفال.. هى من خان يونس أيضا.. قالت إن مأساتها تتجلى كل يوم أمام أطفالها التى لا تعرف أى منهم قد يصيبه الموت.. وفى أية لحظة؟ 

تقول: «كانت خان يونس مليئة بالحركة.. مأهولة بالحياة والنشاط.. أصبحت اليوم صحراءً جرداء.. فارغة من الحياة والموارد والناس.. السوق المحلى تحول إلى مكان موحش.. لم تعد هناك بضائع معروضة.. ولا بائعين».

تقول: «لم نعد نجد ما نسد به الرمق.. لو البضائع وجدت، فأنها تفوق أسعارها الأسعار العادية والحقيقية بأضعاف الأضعاف.. من أكثر من 10 أيام كان الطحين (الدقيق) الذى كان يباع بـ 35 شيكل فثمنه الآن تعدى الـ 2000.

ريماس.. هى زوجها وأطفالها وعائلة زوجها من إحدى مناطق جنوب خان يونس.. أجبروا على النزوح جنوبًا.. ها هم الآن يعانون فى ملاجئ مكتظة، أطفال يعانون من الجوع والبرد.. قالت: «وين أروح بأولادى هون ؟». لا تجد ريماس حلولاً لتدفئة أولادها الأربعة.. فالطقس بارد وقارص. 

 

 

 

تقول: «لم نصل إلى درجة اليأس بعد.. ولو أن كثيرين أصبحوا على قناعة بأن الوفاة تبدو الآن أقل كلفة من مواصلة العيش فى هذه الظروف. المعاناة اليومية، مع نقص الموارد الأساسية مثل الماء والطعام، إلى جانب الهجمات العشوائية لآلة الحرب الصهيونية تجعل الحياة ببساطة لا تحتمل  

قالت ريماس : لا أنا أنتمى لفتح.. ولا لحماس.. لا حزب ولا فصيل.. كنا نعيش الحياة على الحياد.. همى كان تربية أولادى.. وتأمين الطعام والمأوى.. الآن وكأن الحياة تتوالى بلا هدف.. هدفنا الوحيد.. هو الأمان». وتنهى ريماس كلامها قائلة : «صامدون.. لم يعد أمامنا إلا الصمود أو الموت».