
عادل حافظ
فرنسيس.. رفيق الضعفاء
فى عالم يتسابق نحو القوة والمجد، تبقى الإنسانية الحقيقية نادرة، لكنها لا تفنى، فهى ليست مجرد شعار يُرفع، بل جوهر يتجلى فى صمت العطاء، يتجسد فى احتضان يتيم، فى نظرة تفيض بالتعاطف مع محتاج، وفى كلمة عزاء تُقال من دون انتظار لمقابل، فالعطاء نبض لا يُقاس بالكم، بل بصدق الشعور، ويدفعنا إلى تجاوز الذات لنلتقى بالآخرين، ونحمل بعضًا من آلامهم، ونتشارك معهم إنسانيتهم.
فى كل عصر، يولد من بين الناس من يحمل مشعل هذه القيم، لا كواعظ، بل كإنسان، ومن بين هؤلاء، يبرز رجل أتى من أزقة مدينة «بوينس آيرس» الأرجنتينية، لا يحمل سوى قلبه وروحه، وابتسامة مطمئنة فى وجه هذا العالم المتخم بالصراعات.
فى ديسمبر 1936، وُلد «خورخى ماريو بيرجوليو» لعائلة متواضعة لم تكن ثرية، لكن دفء العلاقات وروح التكاتف كانا حاضرين فى منزلهم الصغير، فكان أكبر أبناء «ماريو» الخمسة، حيث كان ماريو مهاجرًا إيطاليًا يعمل كمحاسب فى هيئة السكك الحديدية، بينما كانت والدته «ريجينا سيفورى» ربة منزل تنتمى لعائلة ذات أصول إيطالية.
تعلم «خورخى» من والدته فنون المطبخ الإيطالي، كما نشأ على همسات جدته «روزا» التى كانت تروى له كل مساء حكايات عن الصبر والمحبة والرجاء، فنشأ بين الأزقة التى كانت تعج بأصوات المهاجرين الإيطاليين والأوروبيين، وتعلم منذ نعومة أظفاره أن الاختلاف ليس تهديدًا، بل فرصة لفهم الآخر.

فى المرحلة الثانوية درس خورخى الكيمياء، وعمل فنيًا بها لفترة وجيزة، لكنها مثلت نقطة تحول فى إيمانه بالعلم فى مرحلة لاحقة.
ولم تكن مرحلة شبابه خالية من الألم، ففى سن الواحد والعشرين كما ذكر فى الموسوعة البريطانية - عانى من التهاب رئوى حاد، أدى إلى إزالة جزء من رئته اليمنى، وهى تجربة جسدية ونفسية حفرت فيه إدراكًا مبكرًا لهشاشة الإنسان وقيمة الحياة، لكن تلك التجربة، بدل أن تضعفه، جعلته أكثر إحساسًا بمن يعانون بصمت، فكان دائمًا هادئًا، مراقبًا للعالم من حوله بعين المتأمل لا القاضي.
وفى 1958، كما جاء فى موقع الفاتيكان الرسمي، التحق بفترة المرحلة التمهيدية فى الرهبنة، حيث بدأ رحلته التكوينية الطويلة التى جمعت بين الروح والفكر، وكانت البداية فى «تشيلى»، حيث أكمل دراسته فى العلوم الإنسانية، ما شكّل الأساس الثقافى والفكرى لمسيرته المستقبلية.
عاد إلى الأرجنتين فى عام 1963، ليحصل على شهادة فى الفلسفة. خلال هذه المرحلة، وبدأ يتبلور اهتمامه العميق بالفكر الإنساني، فكانت الفلسفة بالنسبة له أداة لفهم الإنسان، وليس مجرد تخصص أكاديمي.
وبين عامى 1964 و1966، بدأ مسيرته فى التعليم، حيث قام بتدريس الأدب وعلم النفس، فكان للتدريس دور كبير فى صقل شخصيته، إذ أتاحت له هذه التجربة التفاعل المباشر مع الشباب، وتعزيز قدرته على الحوار والتفكير النقدي.
ومن 1967 إلى 1970، درس اللاهوت، حيث حصل على شهادته فى هذا التخصص، ومثّلت هذه الفترة تتويجًا لمراحل التكوين الأولى، إذ جمع فيها بين العقل الإيمانى والمعرفة اللاهوتية، وتعمّق فى فهم رسالته كخادم فى الرهبانية ملتزم بخدمة الإنسان والكنيسة.
ومرت السنوات، حتى عام 2013، فاختارته الكنيسة ليصبح بابا الفاتيكان، كأول أمريكى لاتينى يصبح بابًا الكنيسة الكاثوليكية، واختار لنفسه اسم «فرنسيس» وهو أول من يستخدم هذا الاسم تيمّنًا بالقديس الفقير الذى أحب الأرض والبشر بتجرد.
فى ظهوره الأول أمام الحشود، دخل فى حديث مباشر مع الناس، تلك اللفتة الصغيرة عبرت عن كل ما تمثله قيم التواضع والاعتراف بأننا جميعًا نحتاج إلى بعضنا البعض.
مع تقدمه فى العمر، لم تكن صحته كما كانت، لكن نبرة صوته لم تفقد دفئها. وظل يكتب ويتحدث عن البيئة والعدل الاجتماعى وأهمية الحوار بين الأديان، مدركًا أنه ليس زعيمًا، بل رمزٌ لتحول الكنيسة من سلطة إلى رفيق فى رحلة الحياة.
رحل البابا فرنسيس فى صباح يوم ربيعى من إبريل 2025، بصمت يشبه صلاته، وكانت نهايته امتدادًا طبيعيًا لحياة امتلأت بالعطاء.. ومن رحلته، تُقطف دروس لا تُنسى، مثل أن البساطة ليست ضعفاً، بل قوة داخلية تنبع من معرفة الذات، وأن القيادة ليست بالصوت العالي، بل باليد التى تمسح دمعة، وأن الحوار بين المختلفين لا يحتاج إلى كلمات كبيرة، بل إلى قلوب مفتوحة.