بهجة حارتنا وشجنها
كيف كشفت أغانى أحمد عدوية أننا جميعا شعبيون
فوزى إبراهيم
إذا كنت ممن يعرفون معنى الضحكة حين تخرج من قلب طال بكاؤه، وعمق الفرحة حين تخرج من صدر طال شقاؤه، ستعرف قيمة صوت أحمد عدوية الذى استطاع أن يعبر عن هذا وذاك وأن يفجّر الفرحة فى قلوب ملايين «الشقيانين» فى الحارة المصرية، ومن رحم ذاك «الشرخ» الجريح فى صوته وتلك «البحة» الباكية فى حنجرته أراد له الله أن يصبح هو صوت البهجة التى لملمت شروخ الروح لكل من أتعبته الجروح وعزت عليه البهجة، وكأن شرخ صوته هو شرخ قلوبهم حين يحزنون وحين يفرحون وحين يشكون قسوة الحياة، وحين يجدون سلواهم فى مواويل الصبر ويجدون أصالتهم فى مقامات «الصبا والرصت والبياتى والحجاز» وسلطنة صوت أحمد عدوية وعنفوانه.
نعم.. استطاعت السلطنة «الربانية» الموجودة فى صوت أحمد عدوية مع عشقه للمقامات الموسيقية الشرقية المحببة للحارة المصرية دون سواها أن ترفعه على عرش هذه القلوب وأن تحميه من أن يصبح مجرد ظاهرة تختفى مع الوقت، فقد نهلت ألحان أغانيه الراقصة أو الشجية فى هذه المقامات وتشبعت بها لتعيدها إلى الشارع بعد أن تقلصت مساحتها فى أغانى الإعلام الرسمى فى أواخر الستينيات وخاصة مقام «الرصت والنكريز والصبا والحجاز والبياتى» حتى مقام النهاوند تفرع به إلى «النهاوند البلدى» الذى عشقناه فى موسيقى «التت» والسلام البلدى فى أفراح البسطاء، بل إنه حرص على تسجيل أغانيه بنفس روح الأفراح البلدى وبنفس الألات الموسيقية وخاصة «الترومبيت» النحاسية والأكورديون والصاجات مع بعض ألات الكمان، وبعيدا عن التوزيع الموسيقى «الهارمونى والبلوفونى» وهندسة الصوت المنمقة والمدققة بعد «المونتاج والميكساج» ولم يعتنق منها سوى هندسة السلطنة الربانية فى صوته وفى حساسية آذان العازفين المهرة فى فرقته، وأصبح أحمد عدوية بطبيعة وقدرات صوته «المتسلطن» وطبيعة أغانيه بانغماسها فى موسيقى الحارة الشعبية وروحها وتمردها على أغنيات الإعلام الرسمى هو صوت الحارة فى الأحياء الشعبية رغم غرابة مفردات أغانية، وضمن لنفسه الصمود أمام كل من رأوا فيه مجرد ظاهرة
لأنه.. ارتكن على غناء سليم أولا وعلى موسيقى شعبية لها مخزونها المتوارث فى جينات المصريين (أباً عن جِد) ثانيا.. حيث نشأ السواد الأعظم من الشعب المصرى فى الحارة المصرية أو الريفية وتوارثت الأجيال جيناتها المسكونة بعشق النغمة الشعبية من الآباء والأجداد، مهما علا شأنهم وارتقى سكنهم، وكلنا يعلم قصصا لمطربين شعبيين كانت تحدد مواعيد أفراح الطبقات العليا وأرباب القصور على مواعيد جدولهم، وهو ما أدركه الشاعر الكبير مأمون الشناوى بخبرته حين قدم أحمد عدوية لشركة صوت الحب التى كانت تبحث عمن يعوض لها خسائرها فجاء لها بأحمد عدوية فأنتجت له اسطوانتين، وعملت الشركة فى خطتها على أن يكون الجمهور المستهدف هو جمهور الحارة الشعبية فإذا بالاسطوانات تنتشر فى شتى ربوع مصر بالملايين ويحصل عدوية باسطوانته الأولى «سهرة مع عدوية» التى تضمنت أغنيات (السح ادح امبو - سلامتها أم حسن - كله على كله - حبة فوق وحبة تحت - وموال ياقلبى سيبك - وموال عطشان وغيرها) على الاسطوانة الذهبية من شركة EMI أكبر شركة توزيع خارجى للاسطوانات وشرائط الكاسيت، وهى جائزة تمنح للاسطوانات والشرائط الأكثر مبيعا فى الشرق الأوسط، ومن بعدها حصل على الاسطوانة البلاتينية التى لم يحصل عليها سوى عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ.
وهنا.. جاء السر الثالث فى أحمد عدوية الذى قصد منذ البداية هو ومن حوله من مؤلفين وملحنين استثمار امتلاكه لناصيتى البهجة والشجن معا وقدرته الفائقة فى التوصيل والتعبير عن الحالتين، وحرصوا أن تكون توليفة أغانيه فى كل اسطوانة أو شريط مزيجا من «التفريح» للجمهور بأغان راقصة ومبهجة غريبة المفردات من ناحية و«التفريج» عنهم بمواويل بها من كثافة الحكمة وفلسفة المأثورات والإسقاطات أيضا ما يحاكى وجعهم وشكواهم، ثم الهروب سريعا إلى أغانى التسلية والتسرية ولا مانع من التلهية «للتنفيس» ثم الرجوع للموال وهكذا، وهى التوليفة التى استطاع بها كسر كل الأرقام بمبيعات تخطت مبيعات كل الكبار فى السبعينيات والثمانينيات، وأثارت حفيظة مريديهم لتتوالى الانتقادات.
إلا أن أحمد عدوية وسط انتقاده ووصفه بالسطحية فى كلمات مثل «السح ادح إمبو» و«كرشنجى دبح كبشه.. يا محلا مرقة لحم كبشه» و«سبع سلاطين استسلطناهم من عند المستسلطنين» كان يفاجئ النقاد ويحيرهم بمواويل بديعة مثل اختياره «موال بحب خمسة» الذى كتبه عبدالرحمن الأبنودى ولحنه عدوية والذى يقول:
الناس ليها حب واحد وأنا ليا فى البلد خمسة
أدى حب بحرى البلد وحب قبليها
وحب شرق البلد وحب غربيها
وحب وسط البلد وأنا اللى أتوه فيها
أنا لأصحن الرمل والصوان على راسى
يمكن على يرق قلبك القاسى
وقبل الاستغراق فى هذا العمق والإسقاط يذهب إلى «الهنك» فجأة ويكمل: (وشعرك حنيتيه بالزيت دا ودهنتيه.. ولما جه العريس
وفى حالة أخرى تحتار فى تصنيفها تجده فى موال «عطشان» الذى كتبه حسن أبو عتمان ولحنه فاروق سلامة ويقول:
عطشان وأنا البر دا عمرى ودا خالى
وأفوت على بحركم لم حد يملالى
هو نصيبى كدا أنزل بحور الهوى
أجيب لغيرى الدوا وانسى دوا حالى
ومن قبل هذا وذاك كان موال «ياقلبى سيبك» لحسن أبو عتمان وفاروق سلامة أيضا ويقول:
يا قلبى سيبك من اللى فى العشق فرط
ولا تأمنلوش لو جابلك غداك رمان مفرط
ولا تبوحلوش بسرك لو عينه بالدموع فرت
مدام دا وعدك يا قلبى وقسمة مكتوبة
اعتبره طيرة غريبة كانت فى القفص فرت
ثم يعقبه سريعا بالهنك وجو التفريح وكأنه يلاعب الشخصية المصرية بكل شرائحها ويحقق التوازن مع كل الأذواق، وبين البساطة المفرطة فى الأغانى والعمق المبهر فى المواويل صنع معادلتة الصعبة التى تعلمها بالفطرة وبالخبرة فى الأفراح والملاهى الليلية وساعده عليها قدراته الصوتية والطربية ومخزونه الموسيقى الشعبى، وهو ما منحه شعبية واسعة حرضت أسماء كبيرة مثل بليغ حمدى وسيد مكاوى وهانى شنودة على التعاون معه، وكذلك الشاعر مأمون الشناوى والشاعر عبدالرحمن الأبنودى هكذا.. كانت عناصر وأسرار نجاح أحمد عدوية وخلود أغانيه فى الوجدان المصرى وبقاؤها دليلا دامغا على أننا جميعا شعبيون.