وداع يليق بـ«آخر الشطار»
تستعيد الذكريات: مى الوزير
قبل رحيله الهادئ منذ أيام كان الكاتب والسيناريست الراحل بشير الديك فيلسوفا متأملا، اعتزل الضجيج وفضل التأمل والمتابعة عن بعد، هو حالة إنسانية وفنية متفردة، فالمتابع لأعماله يستطيع أن يلمس هذا أن كاتب هذه الأعمال ليس بشخص عادى فأعماله تحمل من إنسانيته الكثير ومن روحه ورؤيته ومشروعه الاجتماعى والإنسانى وشغفه هو وأبناء جيله، جُمل حوارية فى تاريخ السينما لا تستطيع بمجرد سماعها إلا أن تنسبها إلى قلمه، قضايا لم يجروء غيره على مناقشتها فى وقتها.
«كلنا فاسدون، لا أستثنى أحد حتى بالصمت العاجز، الموافق قليل الحيلة، كل ما أطالب به أن نصلى جميعاً صلاة واحدة، لإله واحد.. إله العدل».. كلمات المبدع تعيش طويلا وعمرها يتجاوز أعمار البشر، المبدع المنغمس فى واقعه، القارئ لما وراء السطور لدرجة تصل به إلى حد استشراف المستقبل.. هذا هو بشير الديك ومشهد كتبه لمرافعة على لسان أحمد زكى عن فيلمه «ضد الحكومة».
الكاتب الكبير بشير الديك صاحب ناجى العلى وضد الحكومة وسواق الأتوبيس، عشق مصر فأبدع فى تحليل واقعها وقراءة ما وراء السطور.
منحنى القدر قربا إلى رجل هو ذاته مخزون إنسانى وثقافى مُبهر ولا مثيل له كبرت بقـُربه وتعلمت قراءة الأفلام وما وراء الجُمل الحوارية حتى إن لم يكن هو صاحب تلك الأعمال وجُملها الحوارية، أحب بشير الديك المشاهدة والتأمل لكل ما حوله ولم يتوقف أبدا عنهما.
أحب الديك المجتمع المصرى وكان غارقا فى تفاصيله مهموما بقضايا وطنه الاجتماعية والسياسية، ولم ينفصل عنها لآخر لحظة.
عالم بشير الديك الفنى والإنسانى الساحر والأخاذ لن ينتهى الحديث عنه، فقد شكل مخزونه الإبداعى جزءا مهما من تاريخ مصر الفنى والسينمائى بلغته البسيطة المتفردة.
فى حوار سابق أجرته «صباح الخير» قال الديك إن السينما جزء من الدنيا، والدنيا الآن فى حالة من الارتباك و«اللخبطة» فهذا القرن يتميز بأشياء غريبة جدا لم تكن موجودة من قبل لهذا فإن القياس هنا سيكون مختلفا تماما، هذا العالم الافتراضى الذى نعيشه غيَّر من كل ثوابت الحياة التى نعيشها. وهذا التغيير النوعى الحديث أثر فى كل الأشياء بما فيها السينما فى أى مكان فى العالم فحتى الأفلام الهندية الآن مختلفة عن تلك التى كنا نشاهده قديما، فكل التطور السنيمائى الموجود يجب أن يتم قياسه على ضوء هذا التغيير الموجود فى العالم كله، والذى أصبح جزءا من حياتنا وشكل سلوكنا.
كان الديك يرى أن السينما نشاط إنسانى شديد الأهمية ومن أجمل أشكال الفنون التى خلقها الله على الأرض، فبالسينما نستطيع صناعة كل الأشياء الجميلة وكل الأشياء الرقيقة بداية من أنواع الأكشن وانتهاء بالأفلام الروحية الرقيقة.
وفى الحوار قال إن السينما المصرية شأنها شأن السينما العالمية، القليل منها جيد والكثير تجارى.. والبشر يكون إنتاجهم عظيم جدا، ولكن تحكم التجارة فى العملية الفنية وارتفاع أسعار كل شىء بداية من أجور النجوم التى وصلت لأسعار فلكية وانتهاء بأسعار الخام وغيرها من أشياء هو الذى أدى إلى هذا الوضع. من أواخر الأفلام التى شاهدها السيناريست الكبير الراحل وأعجب بها إعجابًا شديدًا هو فيلم «يوم الدين» وعنه قال:
شاهدت من فترة فيلما عبقريا بكل معنى الكلمة وهو «يوم الدين» وهو فيلم جميل شديد العبقرية وتقنياته عالية جدا ومخرجه عبقرى جدا، أبو بكر شوقى، وواعد إلى أعلى درجة، وممثلوه فى أعلى درجة من الأداء التمثيلى السنيمائى، رغم أنها تجربتهم الأولى فى التمثيل.
هو يرى أن أهم عنصر فى السينما هو how to make believe أو «كيف تجعلنى أصدق»؟ إذا أنا صدقت إذا أنت نجحت، كلنا صدقنا «ET» زمان، هذا الكائن الهابط من السماء رغم عبثية الفكرة ولكننا صدقناه.. هذه هى معادلة وروشتة النجاح والعمل إذا توفر فيه شرط الإتقان سيصدقه الناس حتى لو كان خياليا المهم أن يكون موضوعا إنسانيا يمس المشاعر.
قبل الرحيل شكا الديك أن هناك جيلًا كف عن العمل وهو جيل كامل.. هو جيلى وجيل داود عبد السيد، أما عاطف الطيب ومحمد خان فقبل رحيلهما كان يقدمان إنتاجا ثم توقفا مرة واحدة، ثم جاءت 25 يناير وصنعت فاصلا بين عالمين، وظهر جيل آخر مختلف تماما عن هذا الجيل من ناحية التقنيات والفكر والتجربة الإنسانية، فما سمى بالربيع العربى والمشاكل الرهيبة التى حدثت وسقوط دول، جعل الموضوعات المطروحة تدور فى فلكين، إما موضوع إنسانى صادق جدا ومتسق مع عالمه ومتقن لكل عناصر هذا العالم، وإما عمل يدور حول فكرة البلطجة، والعنف والعشوائية غير المبررة فى الأساس واكشن دموى مبالغ فيه، وهذا لأن الصناع متصورون أن هذا العنف والأكشن هو فقط الذى سينجح، وسيمتلك صكوك النجاح الجماهيرى، وظنهم أن هذا هو الذى سينجح، وبالتالى لم يعد لدى الصناع استعداد للمجازفة، هذا رغم وجود جيل جديد محترم من الموهوبين مثل مريم نعوم، عبد الرحيم كمال، محمد رجاء ووائل حمدى، وكاملة أبو زكرى وآخرين، ولكن المناخ العام متغير فى العالم كله.
حتى الكوميديا كان الديك غير راض عنها، بالعكس كان يرى أنها أصبحت تهريجا واستخفافا وعبارة عن اسكتشات، فالتغيير الذى حدث فى المجتمع تغيير فى الأشكال والأنماط، فأصبح هناك استخفاف وأصبحت الكوميدية بـ«عافية».
وقت وصول جماعة الإخوان الإرهابية للحكم قال الديك:
قفز حينها على السُلطة طائر الرُخ الخرافى الذى اختطفها وطار بها بعيدا إلى حيث لا ندرى، وأقحم السياسة بالدين والدين بالسياسة، وعندما يتم هذا لا الدين يكون صحيحا ولا السياسة تكون صحيحة خاصة عندما يتم استخدام الدين كمطية للوصول إلى الأهداف السياسية فنحن نعبد ربا واحدا وﻻ يحق لأحد أن يصادر على معتقدات الآخر، وإلا ستكون النهاية مظلمة.
وأعتقد أن ما يحدث فى الدول المجاورة وظهور جماعات مثل داعش الإرهابية، وما تصنعه، فأسوأ ما يواجه ثورة هو المزايدة بالدين وتكفير فصيل لفصيل آخر لمجرد اختلافه معه فى الرأى.
كان بشير الديك مشاركًا فى مشروع مهم مُسمى بـ«أفلام الصُحبة» أسسها لإنتاج أفلام يحبها ومجموعة من أصدقائه محمد خان وعاطف ونادية شكرى وسعيد شيمي، لكن نتج عنها تجربة واحدة فقط وهى فيلم «الحريف» لأنهم اكتشفوا أنهم فشلوا فى إدارة الإنتاج، ولكنه كان يرى أن الفكرة من التجربة والدرس هو قربنا من بعضنا البعض من الجانب الفكرى ورؤيتنا كفنانين للواقع الذى نعيشه وكان هذا هو مشروعنا السينمائى أن نرى الواقع ونعبر عنه بشكل حقيقى.
يتذكر الديك كواليس واحد من أهم أفلامه فيحكى: عندما كنا نُعد «موعد على العشاء» اقترح علىَّ محمد خان أن نعرضه على سعاد حسنى، ولم نكن نعرفها بشكل شخصى، ولكن خان قال لى سنذهب إلى منزلها، وركبنا الأتوبيس من شارع الهرم إلى منزلها فى الزمالك وقابلناها وعرضنا عليها السيناريو وفرحت به كثيرًا وفرحت بنا نحن كذلك، وأصبحت بيننا علاقة جميلة أثناء جلسات العمل وكانت تطبخ لنا بنفسها باستمرار وكان محمد خان مندهشا من الكوارع والفشة والممبار لأن هذا كان بعد عودته من لندن، هذه الفترة حملت كل المشاعر الجميلة والشبابية والحميمية لجيل أراد أن يترك بصمة وكان يحمل خلفية ثقافية وأراد التعبير عن نفسه والتعبير عن الواقع الذى يعيشه، وكان بيننا توافق كبير جدًا، فمحمد خان عندما شعر أنه لن يستطيع تقديم «سواق الأتوبيس» قال لى «إديه لعاطف الطيب» تعجت جدا منه، وقتها لكنه قال لى «هو هيعمله أحسن منى» لأنه بيتكلم عن الواقع المصرى جدا.
قبل الرحيل شعر الديك بأنه فقد الونس وقد عبر عن ذلك قائلاً: فقدت «الونس» برحيل عاطف الطيب ونادر جلال وباقى الأحبة، مضيفًا: حقيقى افتقدت الونس وهو المعنى الذى إذا تواجد فعلا يستطيع الإنسان أن يجتاز كل الصعوبات.
هذه بعض من ذكريات مع كاتب كبير وقريب إلى قلبى وعقلى فقدته السينما المصرية قبل أيام.