الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

سمير فؤاد.. كأنه زرقاء اليمامة

أهدى رسام الكاريكاتير الفنان سمير عبدالغنى، إلى مجلة «صباح الخير» حلقاته المميزة عن جيل الأساتذة من رسامى الكاريكاتير، قبل أن يجمعها فى كتاب يوثق خلاله رحلة هؤلاء مع أحد أهم فنون الصحافة من خلال حكايات وذكريات، عاشها معهم، وصاحبهم خلالها على مدار سنوات عديدة، حرص على توثيقها لتقديمها إلى محبى فن الضحكة والبسمة، وللأجيال الجديدة التى لم يسعدها الحظ أن تتابع رسومات هؤلاء الفنانين فى زمانهم.



 

فى دار الأوبرا المصرية قابلت الفنان عصام طه رسام مجلة صباح الخير، وأحد نجوم مجلة «كاريكاتير» الذى دعانى لمشاهدة معرض صديقه الفنان سمير فؤاد بقاعة الهناجر.. كان المعرض بعنوان (شهرزاد ترقص) سنة 1997. المعرض جميل جدًا، مرسوم بألوان مائية، لم أكن قد تزوجت بعد، ووقفت أمام اللوحات أختار واحدة لتذهب معى إلى البيت.. كانت الراقصات ساحرات ولم يكن معى موبايل، فاستخدمت ذاكرتى البصرية لأحفظ أكبر كم من الأعمال. 

 

سمير فؤاد
سمير فؤاد

 

 

بعد العشاء جلست أفكر فى المعرض وأستدعى الراقصات إلى شقتى المتواضعة، واستعنت بالبانفلت، لكن شيئًا ما لم يحدث.

قلت لنفسى لعلها لعنة شهرزاد.. لكن إذا تمنعت اليوم سوف تأتى غدًا.

شهرزاد سمير فؤاد، فيها سحر عالم ألف ليلة وليلة.. فيها خفة وليونة وأنوثة وعظمة دون ابتذال.. هناك غلالة رقيقة تبعدها عنك لكنها تجعلك تحبها.

 شهرزاد التى تحكى وتثير خيالك حتى تصبح أسيرًا لها.

سهرت طول الليل أفكر فى شهرزاد، ونسيت أننى يجب أن أسلم «كاريكاتير» لجريدة العربى، وكان أمامى بانفلت المعرض، فجاءت لى فكرة، كتبت: (معرض للفنان سمير فؤاد بعنوان شهرزاد ترقص.. وكان الرسم.. واحد يقول للآخر: فيه أزمة بطالة.. شهرزاد ترقص وشهريار بيشتغل طبال فى شارع الهرم).. أعجب الكاريكاتير صديقى الكاتب الساخر أكرم القصاص ونزل فى صفحة 2.

 

مر وقت طويل حتى اعترفت للفنان أننى صاحب الكاريكاتير الذى كان يسخر من المعرض.. فوجدته يضحك ويقول: (آه..شفته فى العربى.. ده عجبنى وبالمناسبة ده كان سبب إن ناس كتير تيجى تتفرج).

 

عندما تسمع سمير يتحدث عن الفن تشعر أنه توضأ قبل الكلام واغتسل فى البحيرة المقدسة وتظهر حوله هالة نور تزداد كلما تذكر أحد المبدعين الكبار، هو خلق من أجل أن يكون فنانًا كبيرًا.

 

يقول عنه الفنان الكبير أستاذه حسن سليمان: (قلت لسمير فؤاد عندما رأيت لوحاته لأول مرة أنت فنان تستطيع أن تكون محترفًا ولا حاجة لك بأن ترتبط برسام أكبر منك سنًا وأكثر تجربة, فستجد طريقك بمفردك لكنه أصر على أن أكون أستاذه، واستمرت علاقتى به طويلة تحددها صداقة حميمة وزمالة فى الحقل الفنى وكان طيلة هذه الأعوام يتفوق على نفسه وينتقل دائمًا إلى الأفضل).

 

عندما عملت فى مؤسسة «دوم» مع الأديب خالد الخميسى وكنا نفكر فى عمل جاليرى ذهبت إليه فقال لى: أنا معكم وحددوا النسبة التى تساعد فى نشاطكم الثقافى وأنا موافق، ليس هذا فقط بل قرر أن يمنح مؤسسة دوم جزءًا كبيرًا من مكتبته التى تحتوى على مئات الكتب، دون مقابل.. تقديرًا لفكرة العمل الثقافى ونشر الإبداع.

 

 

 

 

وأنا فى طريقى إلى مرسمه بمصر الجديدة كى آخذ اللوحات التى تشارك فى معرض دوم قابلنى بمحبة وقال: عندى لوحة بشتغل فيها أدينى شوية وقت وبعدين نقعد مع بعض.. ثم سألنى تحب تسمع إيه؟

 

لم ينتظر إجابتى وفتح الكاسيت على إحدى السيمفونيات العالمية.. الحمد لله أنى لم أقل له أحمد عدوية. كان يرسم ويحدثنى عن تأثير الموسيقى فى العمل الإبداعى وأنه يعشقها، ويعرف عنها ما يجعلك تشعر أنه موسيقى ضل طريقه إلى عالم الفن التشكيلى، بعد أن انتهى من اللوحة شاهدته يذهب للخلف ثم يقترب للأمام ويضع لمسة هنا ولمسة هناك. 

 

وكل ما أذكره أننى قلت له إننى معجب بإحساس الحركة.. فأخذ يكلمنى عن الحركة وعلاقتها بالزمن وعن المشاكل التى يحاول أن يجد لها حلولًا تشكيلية، حتى آخر لحظة كان الفنان مشغولًا بوجود الحركة فى لوحاته، هى البصمة التى لا تخطئها العين المحبة لأعماله.

 

أخذت اللوحات وأنا فى طريقى للخروج توقفت أمام لوحة فسألنى: عجبتك؟ أحرجت أن أرد..فقال: قول متخافش.

 

قلت له يا أستاذ فيه لوحات أنت بتدوس عليها بإيديك فتمسح بعض معالمها.. تختفى بعض التفاصيل.. لكن اللوحة دى أنت دوست عليها برجلك.

 

لم يضحك ونظر إلى وكأننى من كوكب آخر..فقلت له: اعذرنى.

 

أنا بحب اللوحات اللى بفهمها أو أحس إنى فاهمها.. وبحب أشوف الناس حلوة.. لكن مش بقدر أستمتع بحالة تحطيم النسب إلى هذا الحد، ابتسم وقال لى: هناك مستويات للتلقى أنت رقم 2.. فسألته يعنى إيه؟ قال: المستوى الأول هو العادى اللى يحب يشوف وردة، بحر، بورتريه.

 

 

 

 

والمستوى التانى اللى عايز يشوف ويفهم..وعنده تأويل للعمل بدرجة.. المستوى التالت ده اللى أنا بدور عليه.. اللى بيشاركنى فى العمل وبيكمل معايا وده مثقف تشكيليًا وعنده وعى بصرى.. من ابتسامة الأستاذ الساخرة عرفت أنه مش بيتكلم عنى.. ولم أغضب.

 

عندما يتحدث سمير فؤاد أشعر بسعادة وأفتح كل حواسى كى أستقبل ما يقوله: (إن إيقاع الزمن إيقاع قدرى عنيد لا يتوقف أبدًا.. سرمدى البداية.. يسير فى إصرار إلهى إلى اللا منتهى ولا نحس للزمن وتيرة ثابتة.. فهو أحيانًا يسير فى هدوء كجدول رقراق. وأحيانًا أخرى هادر مائج مثل موجة مد عاتية ولكنه دائمًا يكتسح أمامه كل شيء.. لا شيء باق على حاله.. ولا نملك حق العودة إلى الوراء ولا الهرولة إلى الأمام).

 

الموضوع عند سمير فؤاد ليس علب ألوان ألقاها على التوال فى لحظة توهج فنى.. هو أولاً لدية رسالة وفكر ووجهة نظر تدفعه إلى كل ما يقوم به وهو لا ينتظر المقتنى ولا يرسم لأجله.. هو يرسم لأن ذلك هو دوره فى الحياة.. ثم يأتى بعد ذلك كل شيء.. عين سمير على تسجيل الحضور فى صفحات التاريخ الفنية.

 

سنة 2010 كان موعدنا مع معرض (لحم).. قبل الافتتاح بيوم كنت بالصدفة فى القاعة وهم يعلقون اللوحات وسألنى إيه رأيك؟

 

قلت له بعد لفتين فى المعرض: المعرض صعب..أنا معرفتش أكمل فرجة باجى لحد هنا (أشرت إلى إحدى اللوحات الصعبة) وأشعر أننى أريد أن أخرج من القاعة.

 

فى يوم الافتتاح اكتشفت أن أماكن اللوحات تغيرت.. وهذا أسعدنى.. لقد أصبحت أفهم..

 

كان المعرض حديث الناس.. إعلان عن ثورة جياع.. البؤس الذى كان يملأ اللوحات سيطر على إحساسى وتم الاحتفاء بهذا المعرض فى جريدة العربى الناصرى.. هذا المعرض جعل سمير فؤاد يقف فى مكان خاص به وبفنه.. تستطيع الآن أن تعود إلى اللوحات وتسأل نفسك: كيف استطاع الفنان أن يرسم أوجاعنا وأن تكون فرشاته إحدى صرخات الاستغاثة للناس فى مصر (قبل الثورة بعام)؟ 

 

هو الأستاذ الذى ننتظر معارضه بشغف وحب.. هو لا يرسم أنه يتنفس بالألوان ويعبر عن مشاعر الحب والغضب ويراقب الأحداث ويعبر عنها وأحيانًا يكون كزرقاء اليمامة..لديه قدرة على التنبؤ.

 

كنت أذهب إلى المعرض تقريبًا كل يوم أستمتع بصحبته وأحاول أن أفهم وأقترب أكثر من عالمه.

 

وأنا أفتح شنطتى وقعت بعض اسكتشاتى على الأرض، وأنا أجمعها خجلًا طلب منى أن يراها وأبدى إعجابه بها.. أعطيته واحدة هدية، أخذها وقال لى تعالا معايا.

 

فتح شنطة العربية وكانت هناك مجموعة لوحات رسمها لديوان شعر لأمين حداد وقال: اختر ما تعجبك، كانت هناك لوحة لقردة وأخرى لسلحفاة.. قال لى: خد القردة.

 

ضحكت وقلت له لو رحت بيها مراتى هتغير..فى بيتى أعلق لوحة السلحفاة، هى تشبهنى.

 

تبقى الموسيقى الذى يرسمها سمير فؤاد تشعر بها فى الخط فى اللون فى التكوين، هناك هارمونية فى كل شيء تجعلك تقف أمام اللوحة وتشعر وتحس وتستمتع وتسمع اللوحة تهتز.. والموسيقى تخرج من الكادر.. يدفعك الفضول أحيانًا لتدخل اللوحة وتتوحد مع هذا العالم الأثير لروح وعقل الفنان. 

 

أعماله الفنية تذوب رقة وكأنه يعزف.. هو يعرف الإيقاع الذى تعشقه الأذن ويقدمه بطريقته وأسلوبه المميز الذى يجمع فيه طزاجة الإحساس وبكارة الإبداع.

 

 

 

 

دائمًا سمير فؤاد يسبقنا بخطوة ليس لأنه الأستاذ ولكنه أيضًا يعرف طريقًا مختصرًا للوصول إلى قلب المتلقى ليس العادى ولكنه المتلقى الغارق حتى أذنيه فى دنيا الإبداع.

 

سمير يرسم العازف والآلة فى حالة توحد وانسجام.. وتمتلئ اللوحة بإيقاع من الخط المتردد هو يعرف المكان الذى يضع فيه بقعة اللون.. ليجعلك تطرب وتنسجم وتخرج من القاعة وكأنك كنت فى دار الأوبرا.

 

فى إحدى لوحاته رسم ذات مرة علمًا، هناك ثلاثة ألوان فى الكادر.. أستطيع أنا الآخر أن أرسم علمًا وأضع ثلاثة ألوان فى الكادر.. لكن شيئًا ما يظل ناقصًَا.. هو الإحساس، شيء ما فى قلب وعقل الفنان يجعل اللون قادرًا على البوح.. فى لوحتى سوف ترى علمًا.. فى لوحة سمير سوف ترى مصر.

 

أصبحنا أصدقاء.. هو يقول لى: يا سمرة وأنا أقول له نعم يا أستاذ.

 

فى معرضه الأخير بقاعة بيكاسو جاء المحبون يستمتعون بجديد الأستاذ الذى كان يكتب مذكراته بالريشة، حضور الفنان طاغ وقدرته على إثارة حواسك تجعلك تشاهد المعرض أكثر من مرة وتنتقل بين اللوحات وأنت تبحث عن نفسك.. عن عالمك أنت وتسأل نفسك: هل تراه كما يراه الفنان, أم أنك لم تأت ولم تر؟.

 

ممتع أن تشاهد ذكريات فنان بحجم سمير فؤاد.. فنان خلق ليكون أستاذًا.. تأخر كثيرًا قبل أن يقدم نفسه للحياة الفنية.. أيضًا يرسم لوحاته بنفس الإيقاع.. يتأخر كثيرًا قبل أن يقول إنها اكتملت، هو يبحث عن شيء ما بقوة وإصرار وعناد، هو مشحون بالقلق والتوتر.. هو الذى أشار إليه الفنان الكبير حسن سليمان أنه خلق ليكون أستاذًا.. هو سمير فؤاد.