الأربعاء 16 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

من قلبى سلام لبيروت

سكنت بيروت قلوب الناس , وعشقها الشعراء , كل من زارها أحبها , وكل من لم يرها رسم لها فى خياله صورة فيروز , « كبر البحر وبُعد السما بحبك « ,  يسمع صوتها الحالم بألحان الرحبانية ,  كل من عرف حبها للحياة  أحب صباح ,  ووديع الصافى , وماجدة الرومى , وعاصى الحلانى , ووليد توفيق .



وحب بيروت عرفه الجميع ممزوجا بالشجن فهى دائما غزالة تعيش على حافة الخطر , وتجرى فى مساحة شاسعة من الأسلاك , ولكنها عندما تجرح ساقيها لا تلبث أن تنهض من جديد ,  تدرك بيروت طبيعتها فهى لا تستسلم لجروحها  أبدا , وكل من يُقدم لها حفنة من عشب لتحشو جرحها , تأبى إلا أن يظل جرحها  نازفا ليذكر الإنسان بأنه فى البداية والنهاية إنسان , وأن الخاسر دائما هو من يُشعل النار , بيروت لا ترضى إلا أن تظل نازفة حتى تُعلمنا كيف نأسو جُرحا , وننهض من جديد , من حفنة الرماد كطائر الفينيق .

 

  هذه المدينة التى عانت من الحروب الأهلية تقدم لنا اليوم بعد حادث الانفجار الرهيب , كيانها قلبا واحدا  , وجسدا واحدا , وناسها على قلب لبنان واحد , هذه المدينة التى تعرضت لأكثر من اجتياح إسرائيلى , تقاوم بكل ما لديها من عزم , وتناضل بكل ما أوتيت من قوة  .

بيروت تعشق رائحة بساتينها من التفاح , رغم ما تعرضت له من حرائق فهى تكره رائحة الدخان , وتستغرب من تخزين نترات الأمونيوم فى مرفأها الحيوى , بيروت التى تجمع الآن زجاج نوافذها المهشمة , تستعد لنوافذ جديدة من الزجاج الملون بالسمكات الفريدة , وبالألوان المائية الرائقة , بيروت التى فى قلوبنا هى قرينة الشعر , ونسيبة الخيال , وجارة القمر , وقريبة كل معنى جميل , وملهمة الشعراء .

وفى هذه الصفحات إطلالة على أجمل قصائد الشعر العربى المعاصر عن بيروت المدينة والقصيدة .

قُبّل للبحر والبيوت

ومن الشعراء الذين  عبروا عن روح بيروت وناسها  شاعرها جوزيف حرب  الذى صوَّر روحها  الوطنية الخالدة فى دوواينه " مملكة الخبز والورد " , " أجمل ما فى الأرض أن أبقى عليها " , ووصف الجنوب فى ديوانه " أسورة العروس " , وقد غنت له فيروز العديد من الأغنيات العذبة ومنها : " حبيتك تنسيت النوم " , و زعلى طول أنا وياك " , و " ورقه الأصفر شهر أيلول " ..  وجوزيف حرب صاحب أطول ديوان فى الشعر العربى الحديث وهو بعنوان " المحبرة " , وصفه الشاعر فاروق شوشة بأنه خُلاصة الشعرية اللبنانية , وسفيرها إلى العالم . ومن أبدع قصائده لبيروت , قصيدته الرائعة التى تغنت بها فيروز, و ستظل تحمل  بكلماتها المكثفة ومعانيها الثرية , وعمق محبة الوطن والناس   .

لبيروت 

جوزيف حرب

لبيروت 

من قلبى سلامٌ لبيروت

وقُبَّل للبحر والبيوت

لصخرة كأنها وجه بحار قديم 

هى من روح الشعب خمر

هى من عرقه خبز وياسمين

فكيف صار طعمها طعم نار ودخان

لبيروت

مجد من رماد لبيروت

من دم لولد حُمل فوق يدها 

أطفأت مدينتى قنديلها 

أغلقت بابها

أصبحت فى المساء وحدها 

وحدها وليل

لبيروت 

من قلبى سلامٌ لبيروت 

وقُبَّل للبحر والبيوت .

تفاحة البحر ورائحة الغمام

أما الشاعر الفلسطينى محمود درويش فقد ارتبط بها كما ارتبط بها كل شعراء المقاومة الفلسطينية فكتب عنها أيضا سميح القاسم , ومعين بسيسو , وممدوح عدوان , وإبراهيم طوقان , وقد كتب محمود درويش لبيروت أكثر من قصيدة وسماها تفاحة البحر ورائحة الغمام ,  وبثها حبه وشجنه  , ولعله حين يقول : " بيروت خيمتنا / بيروت نجمتنا " فإنه كان يعبر عن  ما قدمته لبنان من دعم ومساندة للقضية الفلسطينية  ومن أبياته :

" يسرقنا جميعا شارع وموشح / بيروت شكل الظل / أجمل من قصيدتها وأسهل من كلام الناس / تُغرينا بألف بداية مفتوحة وأبجديات جديدة / بيروت خيمتنا الوحيدة/

بيروت نجمتنا الوحيدة / هل تمددنا على صفصافها لنقيس أجسادا محاها البحر عن أجسادنا / جئنا إلى بيروت من أسمائنا الأولى / نفتش عن نهايات الجنوب وعن وعاء القلب / سال القلب سال / وهل تمددنا على الأطلال كى نزف الشمال بقامة الأغلال " .. أما رائعته " فى بيروت " فهى نشيد إنشاد للمدينة , أنها أعمق من قصيدة , وأكثر من مائة أغنية حب . فى بيروت

محمود درويش

بيروت شمس ومطر , بحر أزرق 

أخضر , وما بين اللونين من قُربى ومصاهرة

لكن بيروت لا تشبه نفسها هذه المرة

تنظر إلى صورتها فى المرآة وتسأل 

لماذا لا تريدين أن تشبهى غيرك يا جميلة 

تضع جمالها على موجة قلقة , وتخفى 

أدوات الزينة فى الأدراج , تُسرح 

شعرها بيدين نزقتين وتنتظر دون 

أن تعرف ما تنتظر كوردة على قارعة الطريق

الطريق العام , لكن المناخ مكتظ بالأسرار

الغيوم القادمة من جهتين من الصحراء

ومن البحر, ولا سيطرة للخيال على فوضى

المفاجآت تضع خيالها جانبا وتُسلم 

نفسها لأغنية تمدح اللامعنى دون أن

ترقى إلى شرف العبث , بيروت محرومة من تذكر

غدها المتروك لرمية نرد فى لعبة بلا

قواعد , كتجريبية شعر ما بعد الحداثة

فى مقاهيها الخالية من الرواد , ولا أحد 

يربح , والكل خاسر , حتى لو قال صديقى

" أنسى الحاج " , والرابح يخسر والخاسر 

يربح , بيروت الحزينة تخدر حزنها 

بأغنية سابقة عن زمن سابق : عن

ريف وأرز وبراءة ومبارزة بين عاشقين

على عروس , فينام الحزن لساعات , لكن

الخوف لا ينام , بيروت خائفة على نفسها 

ومن نفسها , ومما تُعد لها العاصفة

من معلوم فى صورة مجهول .

 حبه وحبنا 

أما نزار قبانى فقد كانت له بيروت منبعا للشعر فقد خصها بديوان كامل بعنوان " إلى بيروت الأنثى مع حبى "  , كانت بيروت طول الوقت حبه وحبنا .

 فيقول لها  " أحمل بيروت نجمة مضرجة بدمها وأسافر إليكم / بيروت .. بيروت 

بيروت  / هل يمكن أن أتلفظ باسمها , دون أن تكرج دمعة / من العين , ويرتعش عصفور فى القلب / بيروتكم بيروتى / حبكم وحبى / تاريخكم وتاريخى / خزانة أحلامكم وخزانة أحلامى "  , ويناجيها فى قصيدة عذبة بعنوان " سبع رسائل ضائعة فى بريد بيروت فيقول : " آه يا بيروت .. يا أنثاى من بين ملايين النساء / يا رحيلا برتقاليا على ورد وبرقوق وماء / يا طموحى عندما أكتب أشعارى لتقريب السماء " .

وتعد قصيدته الرائعة " ست الدنيا " والتى تغنت بها الفنانة ماجدة الرومى من أكثر الأغنيات عمقا  وتأثيرا , خاصة عندما يستنهض الشاعر المدينة لتأسو جرحها وتواصل مسيرة البناء فيقول فى مطلعها : " يا ست الدنيا يا بيروت  / من باع أساورك المشغولة بالياقوت / من صادر خاتمك السحرى / وقص ضفائرك الذهبية 

من ذبح الفرح النائم فى عينيك الخضراوين / من شطب وجهك بالسكين 

وألقى ماء النار على شفتيك الرائعتين / من سمم ماء البحر , ورش الحقد 

 على الشطآن الوردية " ,  ثم  يناديها ياست الدنيا يا بيروت " قومى من تحت الردم كزهرة لوز فى نيسان / قومى من حزنك / إن الثورة تولد من رحم الأحزان / قومى إكراما للغابات / وللأنهار / وللوديان / قومى إكراما للإنسان" .

 ست الدنيا 

نزار قبانى

 قومى من تحت الموج الأزرق يا عُشتار

قومى كقصيدة ورد 

أو قومى كقصيدة نار

لا يوجد قبلك شىء .. بعدك شىء .. مثلك شىء

أنت خُلاصات الأعمار

يا حقل اللؤلؤ

يا ميناء العشق

ويا طاووس الماء

قومى من أجل الحب ومن أجل الشعراء

قومى من أجل الخبز , ومن أجل الفقراء

الحب يريدك , يا أحلى الملكات

والرب يريدك , يا أحلى الملكات

ها أنت دفعت ضريبة حسنك مثل جميع الحسناوات

ودفعت الجزية عن كل الكلمات

قومى من نومك 

يا سلطانة , يا نوارة , يا قنديلا مشتعلا فى القلب

قومى كى يبقى العالم  يا بيروت

ونبقى نحن 

ويبقى الحب .

شمس وقمح وزهور 

أما أحمد عبد المعطى حجازى فى ديوانه " لم يبق إلا الإعتراف " فيتغنى ببيروت رمزا للنضال , وقد كانت بيروت حاضرة فى شعره منذ ديوانه الأول الصادر عام 1959  وكانت قصيدته فيه بعنوان " صبى من بيروت " , أما قصيدته أغنية لشهر أيار فهى أنشودته التى بدت فيها بيروت رمزا للكفاح والنضال من أجل شمس تطلع قمحا وزهورا وهدايا , وغدا أفضل.

 أغنية أيار 

 أحمد عبد المعطى حجازى

نحن ما زلنا نغنى

لك يا أيار , يا شهر النهار

نحن ما زلنا نغنى

ونُوفى النذر كل ربيع 

لك ياشهر الضحايا

حاملين الدم خمرا فى جرار

ناقلين الشمس بالأيدى إلى الأرض البوار

علها تطلع قمحا وزهورا

وهدايا للصغار

نحن من تقطر أغانياتنا حزنا

ويمشى أهلنا فى الأرض هونا

كم علونا  العود كبرا وصمودا

كم منحنا الحبل والسكين  صدرا ووريدا 

كم سقينا كل يوم فيك يا أيار ماء

قانى اللون جديدا

يومك السادس فى بيروت يوم

نحوه سرنا صعودا

لم ندر وجها , ولم نُغمض عن الجلاد عينا 

بل غرسناها بعينيه فأغضى

 وابتسمنا

يومك الخامس عشر

آه  يا يوم الضحايا والهزيمة

آه  يا يوم الجريمة

نحن لم نبخل عليه بدم

لكنه ضن علينا بانتصار

وبمرأى من دوالينا انتهينا عنك يا يافا 

وتُهنا 

دون أن نشبع من شم العرار

نحن يا أيار , من أبدعنا المبدع من طين ونار

روحنا خصب ودفء

ونحب الأرض والشمس ونحيا فى النهار

فإذا جاء الدجى نطلب حضنا

فيه من روح الثرى والشمس لون وقرار

نحن ما زلنا نغنى

لك يا شهر التمنى

ونعيش للعام انتظارا لانتظار

نحن ما زلنا نغنى

ونوفى النذر يا شهر الضحايا

حاملين الدم خمرا فى جرار

ناقلين الشمس بالأيدى إلى الأرض البوار

علها تُطلع قمحا , وزهورا , وهدايا

علها تبسم يوما للصغار .

 ..... إنها بيروت التى ألهمت الشعراء والناس , إنها بيروت التى تنهض لتبنى , وتتفتح للمستقبل , للحب , والأمن , والسلام , والمحبة.