
عادل حافظ
كمال الدين صلاح.. والصومال «2»
نواصل ما بدأنا فى المقال الماضى عن رحلة الدبلوماسى المصرى كمال الدين صلاح فى القرن الإفريقى وتحديدًا فى الصومال، حيث قررت الحكومة المصرية فى 1954 نقله من «مرسيليا» الفرنسية إلى الصومال، ليكون ممثلًا لها فى المجلس الاستشارى للأمم المتحدة بشأن الصومال، ليجد نفسه فى قلب الصراع.
ذكر الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين فى كتابه «مؤامرة فى أفريقيا» عن رد فعل كمال بعد تكليفه «ابتسم كمال الدين صلاح وهو يقول لزوجته أنه فى أغلب الظن سيجد عملًا هادئًا فى ذلك الركن الهادئ من العالم».
ولكن منذ لحظة وصوله إلى «مقديشو»، أدرك أن مهمته لن تكون سهلة، حيث كان التاريخ يكتب فصله الأخير من الاستعمار الأوروبى فى أفريقيا. كانت الصومال لا تزال تحت الوصاية الإيطالية، بقرار من الأمم المتحدة، والجدل محتدم حول مستقبل البلاد.
فكان كمال يرى أن الأمر لم يكن مجرد اجتماعات رسمية وتقارير ترفع، بل كان معركة بين رؤى مختلفة، بين من يريد للصومال أن تصبح دولة حرة، ومن يرى أنها بحاجة إلى وصاية أخرى. كان يدرك أن القوى الكبرى لن تسمح بخروج الصومال عن نفوذها بسهولة، لكنه لم يكن رجلًا يقبل بأن يكون مجرد واجهة لقرارات تتخذ فى أماكن أخرى.


بدأ العمل على بناء المؤسسات المحلية ودعم القادة الصوماليين الذين يؤمنون بالاستقلال الحقيقى ودفع نحو تأسيس نظام سياسى قادر على الوقوف بمفرده، بعيدًا عن التلاعبات الخارجية. لكنه فى الوقت ذاته كان يعلم أن هذا الطريق محفوف بالمخاطر.
وفى أبريل 1957، اغتيل كمال الدين صلاح فى العاصمة الصومالية على يد محمد عبدالرحمن، وهو شاب ثلاثينى، كان قد درس فى الأزهر الشريف على نفقة الحكومة المصرية، لكنه تشرب أفكارًا متطرفة بعد العودة لبلاده.. وشُجّع من قِبل قوى كانت تعارض الدور الذى لعبه السفير المصرى فى دعم استقلال الصومال ومناهضة الاستعمار.. فنفّذ عبدالرحمن جريمته مستخدمًا خنجرًا مسمومًا خطط لاستخدامه بعناية. وبذلك سقط الرجل الذى أفنى حياته فى الدفاع عن الحق، لينتهى بوفاته فصل من تاريخ الدبلوماسية المصرية.
وفى يونيو 1957، اعتمد المجلس التشريعى الصومالى بالإجماع قرارًا بتكريم كمال الدين صلاح، ومنحه وسام نجمة التضامن الصومالى، وهو وسام من الدرجة الأولى. كما سمى شارع فى «مقديشو»، ومركز ثقافى باسمه، كما جاء فى كتاب « القاموس التاريخى للصومال» للكاتب الصومالى محمد حاجى مختار.
إرث كمال الدين صلاح، لم يكن مجرد سجل من الإنجازات الدبلوماسية، بل دروسًا تظل حاضرة لكل من يعمل فى السياسة والعلاقات الدولية. علمنا أن الدبلوماسية ليست مجرد أحاديث دافئة، بل هى صراع مستمر بين من يريد العدالة ومن يريد السيطرة. أظهر لنا أن الاستقلال لا يُمنح، بل يُنتزع، وأنه يحتاج إلى رجال يؤمنون به، مستعدين لدفع ثمنه. ويذكرنا بأن الأوطان لا تُحمى فقط بالجنود، بل بالعقول التى تخوض معاركها فى الظل وبالحناجر التى ترفع صوتها فى وجه الهيمنة وبالعزيمة التى لا تنكسر أمام الضغوط.
ويبقى اسمه محفورًا فى تاريخ مصر وأفريقيا، كنموذج للدبلوماسى الذى آمن بأن واجبه يتجاوز المصالح الضيقة إلى الدفاع عن حق الشعوب فى تقرير مصيرها.