حكايات الغياب والمقاومة فى «القاهرة السينمائى»
مى الوزير
حالات إنسانية وزوايا متفردة جمعت بين أفلام مهرجان القاهرة السينمائى فى هذه الدورة فى مسابقاتها المختلفة، ما جعل شباك التذاكر كامل العدد فى معظمها، فيما شهدت القاعات زحامًا كبيرًا فى أغلبها.
شارك فى المهرجان أكثر من فيلم مصرى بعد أعوام من عناوين تتصدر عن «أزمة الفيلم المصري» وتساؤلات عن أسباب قلة الأفلام المحلية المشاركة.
كانت هذه الدورة التى انتهت قبل أيام مختلفة بامتياز، حيث التنوع المتوازن فى المواضيع والتيمات المطروحة يُحسب لإدارة المهرجان.
كثير من التفاصيل أكدت اختلاف هذه الدورة من مهرجان القاهرة، وفى السطور القادمة نلقى الضوء على معظمها.
أول ما يلاحظ فى هذه الدورة هو اكتساح النساء بكاميراتهن وحواديتهن، مخرجات من جنسيات مختلفة يثقلن ميزان الفن فى القاهرة السينمائى بقضايا نسائية وإنسانية، نساء يسردن حكاياتهن بمنظور مختلف.
«ضايل عنا عرض» مثال، وهو كان فيلم افتتاح عروض الـ gala، الفيلم إخراج مى سعد وأحمد الدنف، ويستعرض آثار العدوان الغاشم على غزة وما تركه من دمار، من خلال رصد رحلة فرق «سيرك غزة الحر» وكيف يحاولون التكيف مع كل الظروف ليس فقط للبقاء على قيد الحياة، ولكن من أجل رسالتهم فى المقاومة المتمثلة فى تقديم عروضهم للأطفال فى الشوارع لمنحهم لحظات من السعادة وسط المعاناة التى يمرون بها.

وترصد الكاميرا لحظات السعادة تلك على وجوه الأطفال وتفاعلهم مع أعضاء الفرقة.
وفى جانب آخر، نتابع أيضًا بعض التفاصيل اليومية لأعضاء الفرقة وكيف يتواصلون مع أسرهم فى الجانب الآخر من القطاع وكيف يمضون ساعات اليوم فى التجريب والتجهيز لعروضهم.
الفيلم كما وضحت مخرجته مى سعد كان الدافع الأول وراء خروجه للنور إنسانيًا أكثر منه فنيًَا ورغبة منها فى تقديم صورة مختلفة للشعب الفلسطينى بعيدًا عن نشرات الأخبار، سلطت الضوء من خلال الفيلم على فن صناعة الفرحة ومحاولات إضفاء لون مغاير من البهجة على تفاصيل حياتهم اليومية.
بكاميرا نسائية أخرى طرح The silent run منطقة معتمة أبحرت فيها الكاتبة والمخرجة مارتا بيرجمان.
بينما قدم فيلم «فلانة» معاناة نساء عراقيات ممتدة منذ أجيال، و«فلانة» هو فيلم وثائقى للمخرجة زهراء غندور، وهو إسقاط على الشخصية المنسية فى اللهجة العامية وهى محور رحلة زهراء خلال الفيلم لتسليط الضوء على نموذج النساء المنسيات فى المجتمع العراقي.
فالاسم يعكس الغياب ويرصد شريحة معينة فى المجتمع العراقى تتعرض للعنف، ومن خلال رحلتها تعود زهراء إلى منزل خالتها الذى قضت فيه طفولتها متابعة كل الزوار الذين تشاهدهم فى منزل خالتها.
فهى تعمل «قابلة» يلدن النساء فى منزلها، وتتذكر زهراء ردود أفعال النساء عندما يكون المولود ذكرًا، وكيف عندما تكون أنثى، لدرجة دفعت إحداهن لترك مولودتها عند الخالة وتهرب، بينما تربيها الخالة.
ومن خلال السرد وحديثها مع خالتها تبدأ زهرة فى اكتشاف جوانب لا تعلمها عن أسرتها، ومن خلال صندوق صور الخالة ترى زهرة مجتمعًا آخر لم تعشه قبل الحرب وكأنها فى رحلة بين عالمين.
أما «زنقة مالقة» فهو تحفة سينمائية من إخراج مريم التوزاني، وإنتاج مشترك بين المغرب وفرنسا وإسبانيا وألمانيا وبلجيكا.
الفيلم خطف الأضواء خلال عرضه الأول ضمن فعاليات المهرجان، وهو يستحق بجدارة كل الإشادات التى نالها، لأنه فيلم عن الفرص الثانية وإعادة اكتشاف الحياة.
القصة تروى حكاية «ماريا إنخيليس» الإسبانية التى تخطت الـ70، تعيش فى منزلها القديم فى مدينة طنجة بالمغرب محاطة بجيرانها وأحبائها ومنزل تغمره ذكرياتها، وتعشق كل تفاصيله وأركانه الممتلئة بكل ما يشبه ماريا من بهجة ودفء وحب للحياة.
تستقبل ماريا ابنتها كلارا القادمة من مدريد فى زيارة خاطفة بقرار ببيع المنزل الذى وثقه والدها باسمها وتقرر إخلاءه وبيع أثاثه فى أيام لسرعة البيع وإيداع والدتها بإحدى دور رعاية المسنين.

كلارا العابسة ذات الملامح الصارمة والجمود على ملامحها تبدو نسخة متناقضة من والدتها، تنساق ماريا لطلبات ابنتها رغم محاولات للاعتراض لتجد بعد أيام قليلة أن حياتها فى هذه الدار مستحيلة ولا تشبهها، فتبدأ رحلتها للتمرد على قرار ابنتها خاصة بعد سفرها وتركها المنزل لوكيل العقارات، فتعود ماريا لمنزلها الخاوى من كل الأثاث، وتبدأ رحلتها الممتعة فى استرداد أثاثها وحياتها من جديد وتصادف حبًا جديدًا أيضًا بعد عشرين عامًا من وفاة زوجها وتعيد اكتشاف نفسها من جديد.
عروض «كامل العدد»
غير السيطرة النسائية كان اللافت هو العروض التى رفعت شعار «كامل العدد» بزيادة ملحوظة هذا العام.
وبعد سنوات من عرض «غزة مونامور» للأخوين ناصر فهما يعودان إلى القاهرة بـ«كان يا ما كان فى غزة».
فى الفيلم صورة مغايرة عن الصورة النمطية للحياة فى غزة تلتقط تفاصيل الحياة اليومية وما وراء القصف، وكيف يكون الاحتلال الداخلى والفساد الإدارى وما يترتب عليه لا يقل قسوة عن الاحتلال من قبل عدو.
فى فيلمهما « كان ياما كان» فى غزة يواصل الأخوان عرب وطرزان ناصر تشييد عالمهما السينمائى المختلف والمتميز والنابض بالحياة وتكسر حدته السخرية اللاذعة، فهما يتميزان فى أعمالهما بطرحهما الساخر أحيانًا حتى فى ظل الألم وقسوة الواقع الذى يعيشه أبطالهم.
فهما يعملان على الفيلم منذ 2015، وتوقف المشروع أكثر من مرة وبسبب الحرب فى غزة إلى أن خرج للنور وعرض فى مهرجان كان السينمائي.
والفيلم لا يقدم غزة كعنوان خبرى عاجل على القنوات الإخبارية، ولكنه يغوص فى أعماق إنسانية وأنفس بشرية تنبض بالحياة.
واحد من أهم مشاهد الفيلم هو مقتل أسامة، الذى يبدو رجلًا صارمًا رغم أنه يعشق الغناء والرقص، بعد أن ينفرد بنفسه مساءً مستمعًا إلى أغنيات بداية الألفية ويرقص عليها بشكل عشوائي.
وقد داهمه قاتله وهو يرقص ويتحول مشهد الرقص إلى صخب مفاجئ من لحظة البهجة التى يسرقها وحده إلى سقوطه برصاصة الغدر.
أما شكوى رقم 713317 فهى تجربة سينمائية وحالة تتجاوز الحدود، حيث يقدم الفيلم حالة سينمائية تتجاوز التقليدية فينتقل من الدراما الأسرية لحياة زوجين على المعاش إلى تجربة إنسانية شديدة البساطة فى رحلة البحث عن العدالة فى أبسط الحقوق.
المخرج ياسر شفيعى فى أول فيلم روائى طويل يطرح من خلال الفيلم طرحًا شديد البساطة.



