أصداء اللعنة... ورهبة الأبدية
سامح إدوار سعدالله
فجر الضمير يصدر نداء من المتحف المصرى الكبير.
هناك من عند أبو الهول والأهرامات.
هنا فى مصر يشرق كما تشرق شمس على ضفتى النيل، معلنًا عن قوة الحضارة وعظمة التاريخ، حيث رسم ملوكها الأقوياء خطوط المجد على صفحات الزمن، وأشعلوا نور الوعى بين الأجيال.
ملوك مصر وآثارها، نجوم زاهرة فى سماء الأرض، لم يتركوا إرثهم للصدفة، بل كان لكل عملهم ومشاريعهم معنى ورسالة، يعبّر عن قوة الدولة وحكمة الحكم، ويزرع فى قلوب المصريين روح الانتماء والفخر.

من بين هؤلاء الملوك، يبرز توت عنخ آمون، الملك الصغير الذى حمل على عاتقه استعادة العاصمة القديمة إلى طيبة بعد محاولات التجديد الدينى فى عهد أخناتون، وزوج الملكة عنخ إسن آمون، ليكون إرثه التاريخى هو مقبرته التى ستظل رمزًا للخلود، ومرآة للحضارة المصرية التى تتحدى الزمن.
لم يكن حكمه طويلًا، لكنه ترك بصمة لا تمحى، فالمقبرة التى اكتشفها هوارد كارتر لم تكن مجرد كنوز مادية، بل شهادة على قوة التنظيم، والإبداع، والضمير الوطنى فى حماية التاريخ، خاصة بفضل جهود الوطنيين المصريين الذين صانوا التراث وحافظوا عليه من السطو والغزو.
تاريخ مصر ليس مجرد قصص عن ملوك وأهرامات، بل هو تاريخ ضمير يقظ يدافع عن حضارة أمة، تاريخ مليء بالملوك الأقوياء الذين رفعوا شعار العدل والقوة، وأسسوا دولة قوية تعكس وعيًا راسخًا بالمسئولية الوطنية، وضمان استمرارية إرث الحضارة للأجيال القادمة.
فكل حجر فى مصر القديمة، وكل نص على جدران المقابر، وكل كنز محفوظ فى المتاحف، هو رسالة للضمير المصري، وللعالم، عن أمة تعرف قيمتها وتدافع عنها، منذ فجر التاريخ وحتى عصرنا الحديث.
من هنا تبدأ الحكاية بلعنةٍ حيّرت العالم، وجعلت الحضارة المصرية القديمة تقف من جديد فى قلب الضوء العالمي.
فبعد أن اكتُشفت مقبرة الملك توت عنخ آمون فى نوفمبر عام 1922 على يد العالم البريطانى، بدأت سلسلة من الأحداث الغامضة التى أُطلق عليها اسم «لعنة الفراعنة».
تحكى الصحف العالمية آنذاك أن ثعبانًا ضخمًا تسلل إلى بيت كارتر بعد فتح المقبرة بأيام قليلة، والتهم عصفور الكنارى الذى كان يربيه، فاعتبر المصريون ذلك نذيرًا بمصيبة قادمة.
فعلى جدران المقبرة المكتشفة كان هناك نقش يقول: «سيُضرب الموت بجناحه كل من يعكر سلام الملك».
وبعد فترة قصيرة، مات اللورد كارنرفون، ممول الاكتشاف، بسبب لدغة بعوضة تسببت فى تسمم دموي، وتلاه موت عددٍ من المشاركين فى التنقيب، فاشتعلت الصحف الأوروبية تكتب عن «اللعنة التى تطارد من يقترب من ملوك مصر».
تلك الحوادث الغامضة لم تزد العالم إلا انبهارًا وسحرًا بالحضارة المصرية، فبدت مقبرة توت عنخ آمون وكأنها لا تخفى ذهبًا فقط، بل أسرارًا تتحدى الزمن والعلم، لتؤكد أن مصر - ماضيًا وحاضرًا - ليست مجرد أرض، بل روح خالدة لا تموت.
ومع هذا الاكتشاف العظيم، كانت مصر تمر بمرحلة دقيقة من تاريخها؛ إذ كانت لا تزال تحت الاحتلال البريطانى رغم إعلان استقلالها الشكلى عام 1922.
ظن بعض المستعمرين أن كنوز المقبرة يمكن أن تُعامل كما كانت تُعامل الآثار من قبل- تُقسم بين البعثة الأجنبية ومصر- لكن مصر الجديدة كان لها رأى آخر.
فقد كان على رأس الحكومة آنذاك الزعيم سعد زغلول باشا، رمز الوطنية المصرية وقائد ثورة 1919، الذى أعلن موقفًا حازمًا بأن هذه المقبرة وكنوزها ملكية خالصة لمصر، وأنه لن يُسمح بخروج قطعة واحدة منها إلى الخارج.
وأصدر تعليماته الصريحة إلى وزارة الأشغال العمومية- المسئولة عن الآثار حينها - بفرض السيادة المصرية الكاملة على المقبرة، وعدم السماح لكارتر أو أى جهة أجنبية بالتصرف فى محتوياتها دون إذن مصرى رسمي.
وفى ظل هذا الصمود الوطني، لعب الوطنى الشريف مرقص حنا باشا دورًا داعمًا فى الدفاع عن الموقف المصري، وواجه تعنت كارتر بكل حسم ووعي، مؤكدًا أن مصر- حتى وهى تحت الاحتلال- تملك الحق الكامل فى تاريخها وتراثها.
وعندما حاول كارتر الضغط ورفض استكمال الحفائر، أصرّت الحكومة المصرية على موقفها، واضطر كارتر فى النهاية إلى استئناف العمل وفق الشروط المصرية.
وهكذا، لم يكن اكتشاف المقبرة حدثًا أثريًا فحسب، بل كان انتصارًا سياسيًا ومعنويًا لمصر فى وجه الاستعمار.
وبين أصداء اللعنة وغرابة القدر، وبين عناد التاريخ وصمود المصريين، وُلدت أسطورة جديدة تؤكد أن مصر لا تترك إرثها يُنهب، ولا حضارتها تُمس.



