الأربعاء 26 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
توءم الليل!

توءم الليل!

فى الليل، حين ينام الجميع، تجلس الأم بجوار ولديها التوءم. الغرفة ضيقة، المصباح الضعيف يرمش، والهواء ساكن. لا تغفو، عيناها معلقتان بالباب، وأذنها تترقب أى مواء بعيد. تعرف أن الأرواح قد تغادر الأجساد فى هذا الوقت، وأن أطفالها قد يعودون قططًا تسير فى الظلام. تشد الغطاء على جسديهما الصغيرين، تقترب أكثر، تسمع أنفاسهما، وتدعو فى سرها أن يبقيا كما هما عند الصباح. كل مواء فى الخارج يضاعف خوفها، وكل خدش على الباب يزيد قلبها قلقًا.



هذه الأم تعيش تجربة تعكس خرافة متأصلة فى بعض قرى صعيد مصر، حيث يعتقد بعض الأهالى أن أرواح التوائم قد تخرج من أجسادهم أثناء النوم وتتجسد فى هيئة قط. هذه الأرواح تتجول فى الليل، تدخل البيوت، تخيف الأطفال، وقد تسبب أذى، وما يلحق بالقط يُفسَر على أنه ضرر للطفل نفسه. لحماية الطفل، يقدم الأهالى له لبن الجمال، ويعتقدون أنه يربط الروح بالجسد ويمنع التحول، فتصبح الجرعة رمزًا للأمان والسلامة.

الخرافة تعكس مخاوف الإنسان من المجهول، وتمنحه شعورًا بالتحكم فى ما لا يُرى. أى ضرر يلحق بالقط أثناء تجواله الليلى يُنقل مباشرة إلى الطفل، وقد يؤدى إلى وفاته. هذا الاعتقاد يولد قلقًا شديدًا لدى الأهالى، ويدفعهم للالتزام بالطقوس المرتبطة به، فتقديم لبن الجمال يصبح ممارسة يومية تحمل بعدًا نفسيًا عميقًا.

القط فى مصر ليس مجرد حيوان، منذ العصور الفرعونية كان رمزًا للغيب، مقدسًا ومرعبًا فى الوقت نفسه. حين تلمع عيناه فى الظلام، يراه الناس قناعًا لروح تائهة، ويظل حاضرًا فى الحكايات، رابطًا بين العالمين.

عندما يعجز الإنسان عن تفسير المجهول يخترع طقسًا يواجهه به. الطقس قد يكون دعاء، رش ماء، أو جرعة لبن، المهم أن يمنحه شعورًا بالقوة. هنا يجيب العقل بالتفسير، والخرافة تجيب بالمشاعر، والإنسان يحتاج الاثنين معًا.

العلم يقدم تفسيرًا مختلفًا لهذه الظواهر؛ كوابيس، شلل نوم، أو تشنجات ليلية. الكلمات العلمية لا تلمس قلب الأهالى بسهولة، كيف يقتنع أب رأى بعينه خدشًا على ابنه أنه مجرد وهم؟

الذاكرة الشعبية أقوى من أى معمل، وما ترويه الجدة أصدق من أى كتاب. التعليم لم يبطل هذه الحكايات، كثير من المتعلمين يرددونها، وبعضهم يطبقها. الخرافة هنا طقس يمنح الطمأنينة أكثر مما يمنحه التفسير العلمى، جرعة لبن الجمال تطمئن قلب الأم أكثر من ألف دراسة!

توفر الخرافة تفسيرًا للظواهر التى يصعب فهمها، تقلل القلق الناتج عن المجهول، وتمنح الأهالى شعورًا بالقدرة على حماية أطفالهم. مشاركة الطقوس والمعتقدات تعزز الروابط الاجتماعية وتوطد الانتماء للمجموعة، فيصبح الفرد جزءًا من نسيج ثقافى أوسع.

التعامل مع هذه المعتقدات يتطلب احترام الجذور الثقافية وفهم البنية النفسية والاجتماعية للمجتمع، مع تقديم البدائل العلمية بأسلوب مبسط ومقبول.. بناء الثقة فى المراكز الصحية والمؤسسات التعليمية يمثل شرطًا أساسيًا لتغيير الممارسة تدريجيًا، مع الاحتفاء بالتراث الثقافى الغنى الذى يميز صعيد مصر.

قصة الأم مع التوءم وقطط الليل ليست مجرد حكاية تُروى فى الأمسيات، هى مرآة لخوف الإنسان من المجهول، وحرصه على حماية أطفاله، ورغبته فى إيجاد تفسير لكل ما يعجز عن فهمه. الخرافة والعلم طريقان مختلفان إلى غاية واحدة: الاطمئنان.