الأربعاء 15 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
فلسفة التاريخ

فلسفة التاريخ

كنت بصحبة الأديبة دكتورة ريم بسيونى فى مسجد السُّلطان حسن ومعنا عدد من القراء الذين حضروا لمناقشة روايتها «أولاد الناس.. ثلاثية المماليك» الفائزة بجائزة نجيب محفوظ كـأفضل رواية للعام 2020. كان الحديث ممتعًا يحمل المتعة فى التساؤلات والرد عليها. واستوقفنى سؤال من أحد الحاضرين لـ «ريم» من جزئين: أولهما عن رأيها فى محمد على كحاكم مصرى، وثانيهما عن رأيها فيما فعله بالمماليك فى مذبحة القلعة؛ خصوصًا أن «ريم» أنصفت فترة حكم المماليك بما لها وما عليها فى روايتها الرائعة، فقالت ريم إن محمد على جزء مهم من تاريخ مصر أسَّسَ فيها دولة حديثة بكل معانى الكلمة، ولكن ما تبقى من مماليك فى عهد محمد على لم يكونوا على نفس الصفات التى كانوا عليها مع نهاية دولتهم وبدء الاحتلال العثمانى لمصر عام 1517.



أكملت الرد على السائل بالقول: إنه لفهم التاريخ بواقعية علينا الذهاب إليه لفهم واقعه وظروفه ومواقفه كما حدثت، لا الإتيان به إلى العصر الذى نعيش فيه لمحاكمته بظروفنا وفكرنا وواقعنا وحجم ما آل الينا من معلومات، ثم إن التاريخ المجرد لا يمكنه منحنا صورة عن الحقيقة بشكل كامل، بل علينا الاستعانة بفلسفة التاريخ لتحليل الشخصيات والمواقف ومعرفة دوافعها وأسباب مواقفها، فالصورة المجردة للموقف تقول إن مذبحة القلعة تجسيد لديكتاتورية الحاكم الذى لم يتحمل المعارضة فتخلص منها مرّة واحدة دون رحمة! بينما هناك تفاصيل أخرى منها خيانة المماليك وتآمرهم مع الإنجليز لاحتلال مصر إلى حد تسليم الإسكندرية لحملة فريزر عام 1807، ومناهضة مشاريع محمد على الذى لم يجد إلا حل التخلص منهم عند باب العزب.  أضف لهذا أن ما فعله محمد على لم يكن فريد عصره، بل طبيعة عصره بشتى بقاع العالم.

وأكملت بقصة العالم الصوفى «السهر وردى» الذى عاش بحلب فى عهد الناصر صلاح الدين الأيوبى وقت حربه مع الصليبيين، وكان صاحب مكانة لدى الظاهر ابن صلاح الدين الأيوبى والى حلب، وهو ما أشعل غيرة أقرانه فأرسلوا لصلاح الدين الأيوبى يتهمون العالم بالكفر والزندقة! فطلب صلاح الدين من ابنه البحث فى الأمر، فجمع الظاهر الفريقين وطلب منهما المناظرة بينهما.  فسأل المشايخ السهر وردى: «هل يستطيع الله بعث نبى اليوم؟»، فأجاب السهر وردى بنعم.  فسارع المشايخ بإعلان كفره لأن محمد رسول الله خاتم الأنبياء.  فرد السهر وردى بهدوء: «سألتمونى عن استطاعة الله والله قادر على كل شىء، لكنكم لم تسألونى إن كان الرسول خاتم الأنبياء».

 

 ورُغم منطق السهر وردى؛ فإن صلاح الدين أصدر حكم قتله خوفًا من فتنة تصيب البلاد وهو يحارب عدوه! نعم للتاريخ مواقف وملامح يتعين لفهمها إدراك فلسفته ومعانيه لا لتبريرها أو كرهها أو قبولها؛ ولكن لفهمها والتعلم منها.