الأربعاء 31 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

تناقضات توفيق الحكيم!

عندما تكلم عدو المرأة «ببلاش»!



أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.

ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

حقق توفيق الحكيم شهرة فائقة ليس ككاتب مسرحى وروائى رائد فقط.

 ولكن كشخصية طريفة عرفتها عندما كنت أرتّب مكتبة والدى وأطالع الصحف فى سن العاشرة تقريبًا.

 

 

 

روّجوا لفكرة أنه «عدو المرأة» وأنه اشتهر بالبخل، وصوروه بـ«البيريه» الفرنسى والعصا كما لو كان شارلى شابلن مصري!

ولم يعترض الحكيم، فهو يحب الفن والمال. 

 

ومع أنى تعرّفت على أدبه قبل أن ألتقيه بسنوات، حيث أتيحت لى قراءة مجلد لمسرحيات ذهنية من تأليفه وهى مسرحيات كتبها للقراءة وليس لتقديمها على المسرح.

كنت فى مطلع الشباب فلم أستوعب الفكرة، لكن عندما قرأت روايته «يوميات نائب فى الأرياف» عرفت قيمته كأديب، وتوالت رواياته ومسرحياته، فتبدّلت لديّ الصورة التى رأيته عليها من قبل.

فكرة مدهشة!

عندما قرأت كتابه «زهرة العمر» وكنت قد أصبحت محررًا فى «صباح الخير» وهو نوع من السيرة الذاتية، لكنه لا يشمل ما يجب أن تحتويه المذكرات من تفاصيل دقيقة وحساسة عن حياة كاتبها، خطر لى أن أتوجه إليه طالبًا إجراء حديث صحفى معه وقصدى التعرّف على ما خفى من سيرة حياته، فإذا به يوافق بشرط أن أدفع له مبلغ 30 جنيهًا!

كان مرتبى وقتها 30 جنيهًا، ومع أننى لم أكن أعترض على طلبه، إلا أننى عرضت الأمر على رئيس التحرير الأستاذ حسن فؤاد، الذى فكّر قليلًا قبل أن يسحب نفسًا عميقًا ثم قال: ولا يهمك، سنجعله يتكلّم وببلاش!

ابتكر حسن فؤاد فكرة مدهشة: نصدر عددًا خاصًا من «صباح الخير» عن توفيق الحكيم ونبعث إليه بصحفية شابة جميلة تخبره بذلك وتجرى معه الحديث!

وهو ما حدث بالفعل.

 

محفوظ وإدريس والحكيم وإحسان
محفوظ وإدريس والحكيم وإحسان

 

لكن بقيت لدى رغبة فى التواصل معه، خاصة أننى قبل سنوات، سبق أن تعرّفت على ابنه إسماعيل الذى أسس فرقة موسيقية على طريقة «البوب» الغربى وسماها (بلاك كوتس) «المعاطف السوداء».

حضرت بعض حفلاتها ودعانى إسماعيل لزيارته فى البيت وهناك التقيت والده.

كان ذلك قبل سنوات من واقعة الحديث والـ«30 جنيهًا». 

ولا أدرى هل كان طلبه هذا المبلغ نوعًا من الرفض أم بحثًا عن المال الذى اشتهر توفيق الحكيم بأنه يعشقه؟! وخلال سنوات المطالبة الشعبية للسادات باسترداد سيناء والخروج من حالة اللا حرب واللا سلم، قمنا مجموعة من الشباب بجمع توقيعات أكثر من مئة شخصية وطنية لمساندة هذه المطالب فوجدنا توفيق الحكيم متحمسًا للفكرة للغاية حتى أنه كتب ديباجة العريضة، فزاد إعجابنا به.

وعندما تلقى السادات العريضة تكتم عليها وأمر بمنع نشر أى شيء عن موقعيها حتى فى صفحة الوفيات، وقام بطردهم من أعمالهم.

كان ذلك فى صيف سنة 1972 فساءنى الأمر وقمت بعمل تحقيق صحفى مصور وخفيف يحوى صور وسيرة ندوة يومية يعقدها الحكيم ونجيب محفوظ فى مقهى «بترو» فى الإسكندرية.

وقدّمت الحكيم بالعصا والبيريه.

وكان يسألني: وهل سينشر هذا؟

فأقول: سأحاول!

وعندما انتهيت من عملى، قال لي: لم أرك تكتب كلمة واحدة..كله تصوير؟!.. قلت سأكتب الموضوع وأعرضه عليك فى الصباح، وعندما قرأه قال لي: دا انت عقلك كمبيوتر!

وعندما استطعت نشر التحقيق فى «صباح الخير» عاد اسم الحكيم ومحفوظ وصورهما للظهور من جديد.. ووجدته يحيينى قائلًا: هذه عودة الروح!

أزمة «عودة الوعى»

مضت سنوات قبل أن نفاجأ بأزمة تسبب فيها الحكيم عندما انساق لتيار انتشر فى منتصف السبعينيات، يستهدف تشويه سمعة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، فأصدر كتابًا فى بيروت بعنوان «عودة الوعى» يتهمه فيه بالديكتاتورية ويستخف بإنجازه الثورى.

هنا تبينت لنا ولكثير من الصحفيين والمثقفين والسياسيين والأدباء صفة لم يسبق لنا الانتباه لها فى شخصية توفيق الحكيم.. هى التناقض أحيانًا.

فهذا هو الكاتب الكبير الذى واصل على مدى 18 سنة تمجيد الثورة وزعيمها.. وهذا هو الكاتب الذى حماه جمال عبدالناصر فى سنوات ثورة يوليو الأولى بأن ألغى قرار وزير التعليم بفصله من وظيفته كمدير لدار الكتب.. بل إن الوزير نفسه هو الذى غادر منصبه.

وهذا هو الكاتب الذى قال عبدالناصر إن قراءته لروايته «عودة الروح» فى شبابه، كانت حافزًا له على القيام بالثورة، فكيف بعد أن مات جمال عبدالناصر، تظهر هذه «الصفة الخفية» لدى كاتبنا الكبير: التناقض.

انبرى لكشف تناقضات الحكيم عدد من الكتاب يتقدمهم محمد عودة الذى أصدر كتابًا للرد على ادعاءات واتهامات الحكيم لعبدالناصر بعنوان «الوعى المفقود».

ويبدو أن التناقض ليس فقط فى موقفه هذا، لكنه قائم منذ زمن بعيد ويظهر أيضًا فى أحد أشهر أعماله الأدبية رواية «عصفور من الشرق».

 

 

 

فقد صدرت الرواية فى العام الثامن والثلاثين من القرن الماضى وكتبها وفى رأسه مخطط يستهدف إعلاء روحانية الشرق واحتقار مادية الغرب. 

ومن هنا وجدناه يتعمّد تقديم شخصيات الرواية بطريقة بما يعلى من فكرته المسبقة التى فرضها على روايته.

فـ«محسن» الشاب المصرى الذى يدرس فى جامعات باريس هو الشخصية الرئيسية -يتوارى خلفه الكاتب فى هذه الرواية السيرية- مرسوم بحيث يكون الطرف المتعالى على كل شيء فى أوروبا!

ويمضى النص الروائى يقع فى تناقض بعد الآخر نتيجة للهدف الأيديولوجى المسيطر عليه.. فأوبرا باريس مثلًا، بعظمتها تتحول فى عين «محسن» من معلم حضارى إلى مظهر للبذخ والإغراق فى الترف إلى حد الكفر والفجور! 

وهذا يناقض تمامًا واقع الحال.

والشرقيون يذهبون فى بعثات علمية إلى أوروبا - كما ذهب الحكيم نفسه - للتزود بالعلم والمعرفة.

وهذا التناقض الذى بنيت عليه الرواية عن عمد وعلى غير الحقيقة لم يكشفه أحد سوى توفيق الحكيم نفسه!

فبعد خمس سنوات يصدر كتاب السيرة الذاتية «زهرة العمر» وفيه رسالة من الحكيم لصديقه الفرنسى «رينيه» - وهو بالمناسبة اسم الفرنسى صديق المصرى «محسن» بطل «عصفور من الشرق»! - وهذا يؤكد لنا أن الحكيم هو «محسن»: يشكو من جفاف الحياة بعد العودة إلى مصر، ومما يكابده من آلام، ويغبطه لأنه «أوروبى يعيش فى أوروبا».

ويمضى يتذكر ما كان يحضره من حفلات موسيقية فى أوروبا.

يقول: «لقد كان حضورى فى قاعة كونسير يجعل بينى وبين كل فرد حاضر، فرنسى أو روسى أو ألمانى، صلة تكاد تكون صلة المواطن بالمواطن، لقد كنا فى وطن ثقافى واحد تظلنا سماء حضارة واحدة هى سماء الحضارة فى هذا القرن».

 

 

فى هذه الرسالة الشخصية المتجردة من سلطان البرنامج الأيديولوجى، نجد الحكيم الحقيقى فى حال تآخ مع الآخر الغربى، رفيقه فى حب الموسيقى وفى ارتياد قاعاتها «التماسًا للذة التطهر» وليس مساجلة فى الغنى والسعة وكبرياء المال.

هذه الملاحظة بالمناسبة ليست لى، وإنما قرأتها فى كتاب صدر منذ نحو عشرين عامًا للدكتور رشيد العنانى الباحث والناقد المصرى أستاذ كرسى الأدب العربى الحديث فى جامعات بريطانيا.

هو يرى أن الحكيم ينشغل فى روايته بمقولة مسبقة أراد أن تأتى الرواية برهانًا عليها، تتلخص فى مادية الغرب وروحانية الشرق، هذه المقولة تسيطر على تصويره للشخصيات، ونراه أيضًا يطور الحدث بما يخدم هذه المقولة. وكم هى بعيدة عن الواقع ومتناقضة معه!

وفى الأسبوع المقبل نواصل.