الأربعاء 31 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

النبوة على تيك توك

شاب فى غانا يبنى سفينة انتظارًا لنهاية العالم!

نبوءات نهاية العالم على المستوى الكونى تظل موضع شك. تحويل الخوارزميات إلى مصدر يقين يفتح أسئلة عميقة، تمامًا كما يفرض الهاتف المحمول نفسه أداة تأثير غير مسبوقة.



بعض الحقائق تفرض حضورها بقوة حين يمتزج الخوف بالأمل، واليأس بالتكنولوجيا، والبحث الإنسانى القديم عن الخلاص بأدوات العصر الرقمي.  

من غانا خرجت قصة شاب اسمه إيبوه نوح، أعلن النبوة، وشرع فى بناء سفن خشبية عملاقة. عبر تيك توك جمع مئات الآلاف من المتابعين، وأعلن طوفانًا عظيمًا مُقررًا لشهر ديسمبر 2025.

الأرقام لافتة؛ قرابة مليون متابع على المنصة، نحو 380 ألف شخص يستعدون للصعود إلى السفن، وأتباع يبيعون منازلهم وممتلكاتهم.

تدخلت السلطات الغانية، واعتقلته بتهمة نشر أخبار كاذبة، ثم أفرجت عنه. بعد الإفراج ظهر فى فيديو جديد، أعلن أن غياب الطوفان يعنى أن الله غفر للبشرية، وكشف عن خطط لإقامة احتفال كبير.

 

 

 

هذه القصة تتجاوز حكاية نبى كاذب فى مكان معزول. تتحول إلى مرآة تعكس فوضى العالم الرقمى المعاصر؛ صراع إنسانى قديم بين الخوف والأمل، الواقع والخيال، والفرد الباحث عن معنى فى مواجهة جماعة تبحث عن يقين.

أبرز دينامية تكشفها الحكاية تتمثل فى انتقال المبادئ الروحية إلى حكايات مزعومة أحيانًا فى جيب كل إنسان.

«تيك توك»، المصمم للترفيه والمقاطع القصيرة، تحول إلى منبر لنبوءات يوم القيامة. الخوارزميات، الساعية إلى الإثارة والتفاعل، رفعت صوت إيبوه نوح فوق ملايين الأصوات.

الشاشة الصغيرة صارت معبدًا، المتابعون تحولوا إلى جماعة، والتفاعلات الرقمية غدت طقوسًا يومية.

هذا التحول أضعف السلطة الدينية التقليدية القائمة على المعرفة والمسئولية.

كل من يمتلك كاريزما وفهمًا أوليًا لصناعة المحتوى الفيروسى بات قادرًا على ادعاء صلة بالمطلق.

الخطر يظهر حين تنفصل هذه الظاهرة عن المساءلة الجماعية والمراجعة النقدية. الجماهير تتشكل داخل فقاعات رقمية مغلقة، ترى فقط ما يؤكد قناعاتها. تشعر بتضخم عددى عبر أرقام الشاشة، فينشأ إحساس زائف بالجماعة، وتنقطع الصلة بالبيئة الاجتماعية القريبة التى تتيح عادة طرح الأسئلة.

البعد الاجتماعي - الاقتصادى يمثل القلب النابض لهذه الدراما.

قرارات بيع المنازل والتخلى عن الممتلكات تحدث ضمن سياق محدد؛ مجتمعات تعانى هشاشة شروط العيش وغياب شبكات الأمان الاجتماعي.

اليأس يتحول إلى سلعة قابلة للتداول. حين يبدو الحاضر مثقلًا والمستقبل قاتمًا، تغدو أى وعود بالخلاص، مهما بدت غرابتها، أكثر جاذبية من الاستمرار فى واقع قاسٍ.

التخلى عن الممتلكات يعبر عن تحرر وهمى من أعباء الحياة.

الفرد يشعر باستعادة السيطرة على مصيره عبر التضحية بكل شيء من أجل هدف أسمى. هذه الدينامية تكشف أن الحاجة إلى الخلاص ترتبط فى كثير من الأحيان بظروف مادية ضاغطة. الخطيئة الحقيقية تكمن فى تحويل هذا اليأس الإنسانى المشروع إلى سوق للاستغلال.

 

 

 

البناء المادى للسفن الخشبية العملاقة يحمل دلالات تتجاوز كونه مشروعًا هندسيًا غريبًا. الانتقال من فكرة مجردة إلى بنية ملموسة يمثل خطوة حاسمة فى تثبيت العقيدة. الرموز تتحول إلى واقع مرئي.

تنفيذ مشروع بهذا الحجم يعزز مصداقية القائد بوصفه دليل جدية وقدرة. السفن تقف شواهد مادية لمن يرغب فى الإيمان على هذه الطريقة. هذه الهياكل، حتى لو افتقرت إلى صلاحية الإبحار الفعلية، تبقى مرئية وقابلة للمس. فى عصر الصورة، تتحول هذه المشاهد إلى أدوات دعائية تتجاوز أثر الخطب. الإيمان ينتقل من حالة داخلية إلى مشهد خارجى صالح للتداول الرقمي، ما يعمق انتشاره، وهذه هى الأزمة.

رد الفعل الرسمى للدولة فى غانا يفتح بابًا للتأمل فى كيفية تعامل الدول الحديثة مع الظواهر الدينية الشعبية غير التقليدية. تهمة نشر أخبار كاذبة تعبر عن رغبة فى حماية النظام العام. غير أن المقاربة القانونية وحدها قد تعجز عن الإحاطة بالأبعاد النفسية والاجتماعية المعقدة. هذا التعامل حول إيبوه إلى رمز مضطهد فى نظر أتباعه، فيقوى اعتقادهم بوجود قوى تسعى لإسكات الحقيقة. الدولة هناك تواجه معضلة دقيقة: حماية الناس من الاستغلال مع الحفاظ على حرية المعتقد. هذا التوتر يمثل تحديًا جوهريًا فى العصر الرقمي.

أكثر اللحظات حساسية فى التسلسل الزمنى تظهر بعد فشل النبوءة.. ادعاء إيبوه نوح أن غياب الطوفان دليل على الغفران الإلهي، وتحويل خيبة الأمل إلى احتفال، يمثل استراتيجية بقاء واضحة.

هنا تتجلى سيكولوجيا الجماعة؛ فالمجموعة التى تربط وجودها بحدث محدد تواجه أزمة عميقة حين لا يقع الحدث.

غالبًا ما تلجأ إلى إعادة تفسير الواقع للحفاظ على الإيمان. فى هذا المنطق، يتحول فشل النبوءة إلى انتصار.

تُنسب القدرة على تغيير مسار الأحداث إلى قوة الإيمان. هذا التحول يعزز تماسك الجماعة، ويزيد التعلق بالقائد، ويعمق العزلة عن المجتمع الأوسع. يتشكل إحساس بالنخبوية قائم على منع الطوفان بدل النجاة منه.

التغطيات المثيرة والعناوين الجذابة فى الصحافة هناك أسهمت فى تضخيم الظاهرة.

كل نقاش أو نقد أو سخرية ساعد فى توسيع دائرة الانتشار. فى اقتصاد الانتباه، تتحول الغرابة إلى سلعة ثمينة بغض النظر عن حقيقتها أو آثارها.

هذه الآلية تخلق حلقة متكررة تحتاج فيها وسائل الإعلام إلى محتوى مثير، وتوفر الظواهر الغريبة هذا المحتوى.

وصول أتباع من دول مجاورة أضاف بعدًا جيوسياسيًا، إلى قصة إيبوه، وأخرج القصة من إطارها المحلي. الانتشار العابر للحدود يكشف تشابه الظروف الاجتماعية والاقتصادية فى عدة بلدان. كما يبرز قدرة المنصات الرقمية على تجاوز الجغرافيا وصناعة جماعات افتراضية واسعة.

سردية الخلاص من كارثة كونية تجد صدى لدى أشخاص يشعرون بأنهم ضحايا نظام عالمى غير عادل.

هذا يفرض تحديات إضافية على الدول فى إدارة الظاهرة بوصفها جزءًا من تحول ثقافى أوسع.

مستقبل حركة إيبوه نوح يظل مفتوحًا على احتمالات متعددة.

 

 

 

قد تتحول إلى طائفة صغيرة مستقرة، أو تنحسر مع عودة الأتباع إلى حياتهم اليومية ومواجهة الخسائر.

قد تكتسب طابعًا احتجاجيًا ضد السلطات، أو يُعاد تشكيل خطابها نحو مزيد من الانغلاق. العامل الحاسم يرتبط بقدرة القائد على إعادة صياغة السردية، وبقدرة الأتباع على استيعاب الصدمة النفسية.

الظاهرة تستدعى حركات مماثلة عبر التاريخ، مع فروق فرضها العصر الرقمي.

حركات يوم القيامة ظهرت عبر قرون، غير أن سرعة الانتشار عبر المنصات الرقمية والقدرة على جذب أتباع من خلفيات متنوعة خلال زمن قصير تمثل سمة جديدة. التواصل الفورى متعدد الوسائط يمنح القائد حضورًا دائمًا يُجدد الإيمان باستمرار.

البعد الأعمق يتعلق بطبيعة الحقيقة فى زمننا.

فى عالم يسمح لكل فرد ببناء واقع افتراضى خاص وجذب ملايين المؤمنين به، يصبح تعريف الحقيقة مشكلة مركزية. المؤسسات الدينية، والعلم، والدولة، والجماهير الرقمية تقدم تعريفات متنافسة للحقيقة.

الصراع بين النبوءة المقترحة والقانون المؤسسى يعكس هذا التعدد. ويكشف ميلًا لدى كثيرين لاختيار الحقيقة التى تمنح الأمل على الحقيقة القائمة على الدليل.

التحدى أمام المجتمعات الحديثة يتمثل فى بناء مناعة فكرية جماعية ضد الاستغلال العاطفى عبر المنصات الرقمية.

يتطلب ذلك ملء الفراغ الروحى والاجتماعى الذى يدفع الأفراد نحو معتقدات قصوى، واستعادة الثقة فى المؤسسات التعليمية والعلمية والدينية بوصفها مصادر لأمل واقعي.

ما زالت السفن الخشبية قائمة فى غانا، والممتلكات بيعت، والقائد حر، والعالم يمضي.

غير أن وهم العيش فى عصر تنتصر فيه العقلانية بسهولة على الخرافة تلقى صدمة عميقة. الخرافة تتجدد، ترتدى ثوب العصر، وتجد جمهورها فى كل مكان.

المهمة الحقيقية تتجاوز السخرية من أولئك الذين يبحثون عن النجاة عبر سفينة خشبية. تتجه نحو طرح سؤال جاد: ما الطوفان الحقيقى الذى يهدد عالمنا؟ وما السفن الواقعية القادرة على إنقاذ إنسانيتنا؟

قد يتشكل الجواب هنا، على الأرض، فى كيفية عيشنا المشترك وصناعة المعنى من جديد.