الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قراءة تاريخ جمال عبدالناصر

 «الموضوعية» فى قراءة التاريخ تعنى الوقوف عند الظروف القائمة وقت اتخاذ الإجراء أو القرار بمعرفة السلطة الحاكمة لمعرفة مدى اتفاقه مع تلك الظروف أو عدم اتفاقه، ودون إصدار حكم بالتأييد أو الرفض، أو بالاستحسان أو بالاستياء. أما «الذاتية» فى قراءة التاريخ فتعنى أن قارئ أحداث التاريخ يحكم ذاته ومصالحه فى النظر لإجراءات السلطة الحاكمة من حيث الضرر الذى يقع عليه، أو الفائدة التى يجنيها.



 ورغم هذه الحقيقة العلمية، هناك بعض «المؤرخين» يعتقدون أن المؤرخ قاض وعليه أن يحكم فى القضية التى أمامه.. والحكم عادة يكون إما بالإدانة أو التبرئة. 

 غير أن انتحال المؤرخ لمهمة القاضى أمر معيب، ذلك أن أركان المحاكمة القضائية فى الجنايات والمخالفات غير متوفرة فى «محاكمة» شخصيات التاريخ، حيث لا توجد مرافعة وإنما يوجد ادعاء فقط.

والحاصل أن قيام الضباط الأحرار بالثورة على الحكم القائم فى مصر ليلة 23 يوليو 1952 وما صاحبه من اتخاذ إجراءات سياسية واقتصادية واجتماعية، أثارت لغطا كثيرا بين مؤيدين ومعارضين ولا يزال قائما حين تتغلب النظرة الذاتية على الموضوعية وتضيع الحقيقة. 

وفى هذا الإطار تأتى إشكالية  تحكيم  المصالح من حيث الفائدة أو الخسارة من الإجراءات التى اتخذها جمال عبدالناصر، والذين يعتقدون فى أنفسهم الموضوعية فى الحكم على عبدالناصر يقولون: إن له إيجابيات عظيمة وله سلبيات عظيمة، على طريقة الإمساك بالعصا من الوسط والعمل على إرضاء الجميع. 

 وثائق أمريكية عن سوء الأحوال

 وأصحاب هذا الوصف لا يعلمون أن الإيجابيات والسلبيات أمر نسبى وليست مطلقة، فمثلا أى قانون يصدر يستفيد منه البعض ويضار منه البعض، والحكم على هذا القانون أو ذاك يكون بحجم الاستفادة أو الإضرار منه، فإذا كان المستفيدون غالبية الشعب فإنه قانون إيجابى وليس سلبيا إلا عند الذين أضيروا منه، وهؤلاء نسبتهم ضئيلة جدا .. وهكذا فى كل الإجراءات. 

وهذا أمر طبيعى .. ففى مجال الطب والعلاج هناك حقيقة تقول إن أى دواء يوصف للعلاج إذا لم تكن له آثار جانبية Side effects لا يعد دواء معالجا، وهكذا لا يوجد «مطلق» إلا فى أذهان الذين يعتقدون بصحة آرائهم.

 وللتدليل على تحكيم الذاتية بعيدا عن الموضوعية فى قراءة تاريخ جمال عبدالناصر، نذكر بعض الأمثلة على النحو الآتى: القول بأن العهد الملكى كان رائعا وأن الثورة لم يكن لها سبب.

وإلى هؤلاء نشير إلى وثيقتين أمريكيتين تناولتا الأوضاع العامة فى مصر «الملكية» وتؤكد أن سوء الأحوال وحتمية الثورة: الوثيقة الأولى بتاريخ 7 يناير 1949، وهى عبارة عن تقرير سرى من هولمز Holmes القائم بأعمال السفير الأمريكى فى لندن لوزير الخارجية الأمريكى وعنوانه: «مصرفى ثورة» Egypt in revolution، والتقرير عبارة عن فحوى محادثة تمت بين هولمز ومسئول بريطانى فى الخارجية البريطانية مختص بالشئون المصرية قال له باكتئاب عميق «يبدو من ظاهر الأحداث التى تسير من سيئ إلى أسوأ أن مصر مقبلة على ثورة لا يمكن تحاشيها، وبدلا من أن يبذل المسئولون جهودهم لعلاج المشكلات التى يعانى منها المصريون، فإنهم يتطاحنون على كرسى الحكم ولا يلتفتون إلى تيار الغضب والجوع واليأس الذى يدفع الناس إلى السخط وعدم الرضا. والصراع الآن واضح بين الذين يملكون والذين لا يملكون». واختتم المسئول البريطانى قوله: «بأن التوقعات المستقبلية فى مصر زفت grim».

والوثيقة الثانية بتاريخ 12 ديسمبر 1951 صادرة عن البيت الأبيض الأمريكى عبارة عن خلاصة لمناقشات تمت بين رؤساء عدة إدارات مسئولة عن الحالة فى مصر، انتهت إلى القول بأن الأوضاع فى مصر تنذر بخطر الثورة حيث إن سكان مصر زادوا بنسبة 25 % فى عشر سنوات وهى زيادة لم تصحبها زيادة فى مساحة الأراضى المزروعة، فضلا عن سوء توزيع الثروة، ذلك أن نصف الأراضى مملوكة لنصف فى المائة (0،5 %) من الأفراد، فضلا عن مشكلات التعليم والنسبة العالية للأمية والجهل المتفشى الذى لا يمكن تخيله، ولم يعد هناك أحد يثق فى الحكومة ولا فى وعودها التى لم تحقق منها شيئا.

 ولعل تلك الأوضاع تفسر قرارات الثورة فى خلال الثلاثة أشهر الأولى من قيامها (سبتمبر-نوفمبر 1952) وهى: الإصلاح الزراعى،  وتخفيض إيجارات المساكن بنسبة 15 %، ومنع الفصل التعسفى للعمال، ثم إلغاء الأحزاب السياسية (17 يناير 1953).

كل هؤلاء مضارون

وعند هذا المنعطف من الإجراءات الثورية السريعة، بدأ الصدام مع جمال عبد الناصر من الذين أضيروا من تلك الإجراءات بشكل أو بآخر، وهم: أبناء العائلات الذين خضعوا لقوانين الإصلاح الزراعي؛ وأعضاء الأحزاب السياسية وأنصارهم الذين احتكروا الحياة السياسية منذ عام 1924 ولم يقدموا شيئا لحل المشكلات الاجتماعية غير شعار «القضاء على الفقر والجهل والمرض ومقاومة الحفاء»؛ وأعضاء الحركة الشيوعية المصرية بمختلف فصائلهم الذين كانوا يرون ضرورة عودة الضباط إلى الثكنات والابتعاد عن الحكم؛ وجماعة الإخوان المسلمين الذين تم إبعادهم من المشهد السياسى بل اعتقالهم عقب محاولتهم اغتيال جمال عبدالناصر (26 أكتوبر 1954)؛ وأصحاب رأس المال الصناعى والتجارى الذين خضعوا لقرارات التأميم (يوليو 1961). 

نصف الحقيقة

وعندما أقدم جمال عبدالناصر على تأميم قناة السويس وانتهى الأمر بالعدوان الثلاثى (الإنجليزى الفرنسى الإسرائيلي) قال خصوم ناصر: لماذا أقدم على هذه الخطوة وكان امتياز قناة السويس ينتهى فى نوفمبر 1968 (99 سنة من تاريخ افتتاح القناة للملاحة فى 19 نوفمبر 1869)، ولم يدركوا، لأنهم لا يقرأون التاريخ، أن شركة قناة السويس لم تكن تنوى تركها لمصر لأنه فى عام 1909 طلبت الشركة من الحكومة المصرية مد الامتياز 40 سنة أخرى تنتهى فى نوفمبر عام 2008، لولا أن محمد فريد رئيس الحزب الوطنى فضح المشروع فى صحيفة «اللواء» وطالب بملكية مصر للقناة فتراجعت الحكومة وسحبت المشروع وكانت قد عرضته على الجمعية العمومية (البرلمان آنذاك) لمناقشته.

ولما وقع عدوان يونية 1967 واحتلت إسرائيل سيناء.. قال خصوم ناصر: إنه مسئول عن الهزيمة لأنه أدخل البلاد فى قضايا العروبة وكنا فى غنى عنها وانفرد بقرار حشد القوات المسلحة لمناصرة سوريا المهددة بعدوان إسرائيل. 

وفى ذلك يتجاهلون أن التخطيط للقضاء على عبدالناصر بدأ فور قيامه فى أول يناير 1957 وبعد انسحاب إنجلترا وفرنسا فى الثالث والعشرين من ديسمبر 1956من منطقة القنال بعد العدوان، بإلغاء اتفاقية الجلاء مع إنجلترا (المعقودة فى أكتوبر 1954) والتى كانت تسمح لإنجلترا بالعودة لمنطقة القناة فى حالة وقوع عدوان على إحدي    دول الشرق الأوسط .. فكان قرار الإلغاء يحرم إنجلترا وأمريكا من استخدام القاعدة العسكرية فى الإسماعيلية لصالح حلف بغداد (فبراير 1955) الذى رفض عبدالناصر الانضمام له.. وفور قرار عبدالناصر بإلغاء تلك الاتفاقية انتفض الرئيس الأمريكى آيزنهاور وأعلن مشروعه المعروف باسم «الفراغ فى الشرق الأوسط» (5 يناير 1957) وقال لمستشاريه: يجب أن يختفى ناصر Nasser must go  وبدأ الإعداد لكيفية تحقيق هذا فور دخول مصر لمساعدة ثورة اليمن (سبتمبر 1962).

توخى عدم الدقة

وأما قول خصوم عبدالناصر إنه انفرد بالحكم وأسقط الديموقراطية من حساباته وحال دون تداول السلطة بعد أن كانت مصر قد حققت الديموقراطية والليبرالية فى إطار دستور 1923، فإنه قول غير دقيق. فقانون الانتخاب المصاحب لذلك الدستور نص على أن من يرشح نفسه لمجلس الشيوخ يكون ممن يدفعون ضريبة أطيان زراعية قدرها 150 جنيها سنويا، أى ملكية 300 فدان لأن الضريبة على الفدان كانت نصف جنيه، وأن من يرشح نفسه لمجلس النواب يدفع 150 جنيها تأمين لا يرد له إلا إذا نجح أو حصل على 7 % من أصوات الدائرة على الأقل. وبهذا وقع البرلمان بمجلسيه (السلطة التشريعية) فى يد كبار ملاك الأراضى الزراعية وأصحاب رأس المال التجارى والصناعى،  وهو ما يفسر التشريعات التى كانت تصدر لصالح تلك الطبقة، كما هو واضح من مضابط جلسات البرلمان. 

وهناك من يلوم جمال عبدالناصر على موقفه من محمد نجيب وإعفائه من رئاسة الجمهورية (11 نوفمبر 1954) مع أنه قائد الثورة طبقا لبيان إعلان الثورة .. إلخ. وهؤلاء لا يعرفون حقيقة الأمر والذى يتلخص فى أن محمد نجيب لم يكن عضوا بتنظيم الضباط الأحرار ولم يعرف بأمر التنظيم وقرار الثورة إلا يوم 18 يوليو 1952، وأنه تم استيعابه داخل القوى السياسية القديمة (الأحزاب وجماعة الإخوان)، وأنه أخذ يتحدث بلسانها. 

وهكذا وعلى لسان خصوم جمال عبدالناصر أصبح التاريخ حرفة من لا حرفة له وضاعت الموضوعية لحساب الذاتية فى الحكم على الأمور.