للذكرى الحلوة
هايدي فاروق وريشة هبة المعداوي
دارت بمخيلتها ذكريات كثيرة أفكار تسير فى سرادق عزاء وأمنيات كانت أشبه بحوريات الجنة تحولت لمموسات.. عرفت الحقيقة بعد أن كانت تحيا بالأمنيات ففقدت قيمة الحياة والجميع كان يلعب دور المتفرج الأصدقاء والأهل حتى الأعداء.. لذلك وقفت مليا أمام تليفونه المحمول بضغطة واحدة يمكن أن يظل الواقع خيالا جميلا.. وإذا رفعت أيديها يعصف القبح بالخيال.
دهى منال ذات الأربعين عاما طبيبة عرفت الحياة بوجهها القبيح وكانت الخيالات فيها مجرد ظلال تحتمى بها أوقات.. نسمات تهب فى مواسم متباعدة.. بحر يتلقفها مخفيا هيجانه تتمدد على شاطئه حتى الغروب وتغمض عينيها مستسلمة للهواء المشبع باليود، وعندما تفتح عينيها كانت تجد نفسها وسط تسونامى تنقلب للقاع وتطفو للحظات تستنشق بعض الأنفاس التى تفقدها سريعا بعد أن تصفعها الأمواج تملأ فمها وإذنيها وتتباعد الأصوات ويقترب الموت فتسألعن سر الحياة.. تملأ عقلها ودماءها المياه .. مالحة بغيضة وينتهى كل شىء.
الآن تستطيع أن تقرر.
فلطالما تمنت هذه اللحظة فكل ا مر فى حياتها جاءها غصبا ولم تملك القرار فى أى مرة.. وهو جسده ممدد أمامها على طاولة المشرحة مغمض العينين.
هو.. الدكتور محسن طبيب القلب ليبى الجنسية.. صديقها الذى صارحها بحبة للفتاة جارته التى عشقها منذ سنوات طويلة دون أن تعلم.. كان يراها صغيرة جميلة، ولكنه لم يكن يريد الاقتراب منها وقتها فظل حبها فى قلبه وقودا يشعل الحماس والأمل فى حياته، وعندما رآها مجددا بعد عشر سنوات عقب عودته من لندن بعد أن سافر لاستكمال دراسته كانت فى انتظاره دون وعد اقترب منها واقتربت منه ولأيام قليلة عاشا قصة حب رائعة وقبل الحادث بيومين صارح الحبيبة بأنه متزوج زواجا قبليا بدون أى مشاعر من ابنة عمه منذ 17 عاما ولديه ثلاثة أولاد وأنه أخفى زواجه كى لا يخسرها وعندما عرفت بكت وتركته.
حكى لمنال عن حبيبته العنيدة التى ترفض حتى الرد على تليفوناته وأنه يتمنى فقط أن تعطيه بضع دقائق كى يفكرا سويا فى مستقبلهما.
نصحته منال بالإقلاع عن حبها والرجوع إلى ابنة عمه وأولاده، لكنه كان مصرا لحبيبة لا تزال عنيدة رافضة أن تبنى حياتها على أشلاء زوجة مكلومة بسيطة لا تعرف من الحياة سوى حدود ليبيا التى تعيش فيها وتنتظر ابن عمها وزوجها كل عيد ليعود من القاهرة التى أصبح مقيما فيها منذ سنوات محملا بالحلوى والهدايا راضية بأيام قليلة.
وفى آخر ليلة من شهر رمضان حمل سيارته باللعب والملابس والهدايا متجها لليبيا لقضاء أيام عيد الفطر مع أسرته تاركا قلبه فى القاهرة على أمل أن يعود فتغير الحبيبة رأيها وتقبل أن تصبح زوجة ثانية.
تاركا وصيته لمنال بأن إذا حدث مكروه له فإن الحبيبة لابد أن تعرف أنه كان ينوى الزواج منها حتى إذا ترك ابنة عمه وتفرغ لعشقها.. وبعد أذان الفجر بدقائق كان يسير على طريق «مصر - الإسكندرية» أوقف سيارته بعد أن سقطت كرتونة مملوءة بلعب الأطفال من أعلى السيارة نزل ليلتقطها ويعيد وضعها من جديد فوق السيارة.. الحبل لا يريد أن يثبت هذه المرة.. وسيارة مسرعة بجانبه تنهى حياته
نقل للمستشفى ولم تمر سوى لحظات حتى فارق الحياة لم يستدلوا على أقاربه اتصلوا بآخر رقم اتصل به وكانت منال.
ذهبت منال للمستشفى لاستلام أغراضه وإخبار أهله وانتظارهم أمسكت بموبايله قرأت الرسائل.. توسلات ووعود عشق واعترافات بأن لا حياة إلا مع الحبيبة.. هل تبقى على الرسايل فى موبايله أم تحذفها.. سؤال ربما لم يكن بهيبة الموقف ولكنها امرأة وتعرف معنى الذكرى الحلوة.
وتذكرت منال حكايتها فقد كانت زوجة سعيدة منذ خمسة عشر عاما تزوجت زواجا تقليديا، وبعد فترة أحبت زوجها عشقته وعشقت بيتها فمنال طيلة عمرها طالبة مغتربة وبعد أن تخرجت وعملت فى مجال طب النساء استقرت نهائيا بالقاهرة وتركت قريتها البسيطة فى المنوفية.. منال لم تعرف معنى الاستقرار طيلة عمرها فقد توفى والدها وهى طفلة وبعد عدة سنوات توفيت والدتها وعاشت مع عمها حتى المرحلة الجامعية، لذلك بعد شهور بسيطة من زواجها وجدت أن حبها لزوجها هو مزيج من الحب والاحتياج جعلها تتمسك بكل تفاصيل الحياة التى حلمت بها يوما، وبعد إنجابها لطفلها الأول ازداد تمسكها بالحياة الجديدة.. سمعت بالصدفة مكالمة هاتفية لزوجها كان يحدث شقيقته سمعت أنه غير سعيد معها وأنه كان يتمنى أن يتزوج من الفتاة زميلته فى الكلية التى كان يحبها وأن الفرصة لو جاءت له مرة أخرى سوف يتزوجها وأنه سيظل يبحث عن الحب طيلة حياته.
وعلى قدر طيبة وأصل زوجته إلا أن الحب لم يلمس قلبه مطلقا ولا يشعر بوجودها معه.
الكلمات كانت قاسية على مسامع الزوجة والتى قد ظنت أنها أخيرا وجدت الاستقرار عرفت معنى البيت والحب والزوج والأولاد.
منال لم تصارح زوجها بما سمعته وساءت حالتها النفسية وابتعدت عن أصدقائها أصبحت تشك فى زوجها بشكل جنونى وتراقبه وتقارن نفسها بكل امرأة تعرفها أو يعرفها زوجها تحولت حياتها لجحيم.. وتساوت لحظات الفراق باللقاء.
وبعد سنوات مات الزوج.. لم يخنها.. ولم يتزوج عليها.. ولم يتركها.. لكنه دمر كل ذكرى جميلة قد عاشاها معا يوم أن سمعت أنه لم يحبها وأنه كان يبحث عن الفرصة لتركها حتى أنها لم تعد تطيق رؤية الصورة الوحيدة له فى المنزل فأنزلتها وأخفتها بعيدا بحجة أنها تحتاج لبرواز أنيق يليق بها.
مات الزوج.. مات الجسد.. ولم تمت الكلمات.. ظلت تتردد فى عقلها حتى أنها فى بعض الأحيان منعتها من الترحم عليه.
منال قررت.. اتصلت بالحبيبة وأخبرتها بوصية الدكتور محسن وبعد أن أنهت المكالمة مسحت كل الرسائل من على موبايله قبل أن تسلمه للزوجة.. وهى مؤمنة بأنها تنقذ حياة امرأةلو كانت عرفت لعاشت ميتة ما تبقى من عمرها.