الثلاثاء 7 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

هوية مصر بين التغير والثبات

هوية مصر بين التغير والثبات
هوية مصر بين التغير والثبات


كتب:  د.صلاح السروى

 تحتل قضية الهوية موقعا أثيرا فى كتابات المفكرين وعلماء الاجتماع فى الفترات الأخيرة، وبخاصة منذ بداية التسعينيات مع ظهور ثورة الاتصالات أو ما سمى بالثورة العلمية والتكنولوجية الثالثة، حيث تم الهجوم من قبل بعض الباحثين على مفهوم «الهوية» باعتباره مفهوما انعزاليا «قاتلا» كما قال أمين معلوف فى كتابه «الهويات القاتلة».
أو أن الهوية محض وهم كما قال جان فرانسوا بيار فى كتابه «أوهام الهوية». ترتيبا على معطيات واقع العولمة التى تقتضى اندياح الحدود وانهيار السدود أمام حركة رؤس الأموال والأفكار معا. كما أن التقنيات الحديثة فى مجال الاتصالات تتيح فكرة تقارب العالم وتحوله إلى قرية صغيرة.
لكن قضية الهوية تزداد أهميتها بالنسبة لنا نحن أبناء الطرف الرأسمالى وليس المركز –  نحن أبناء العالم الثالث صاحب الحضارات القديمة والمرتكزات الثقافية العريقة. فإن الاستسلام لهذه الدعوات يعنى التسليم بفكرة «التنميط الحضارى» (بحسب سيرج لاتوش فى كتاب «تغريب العالم») وإننا إذ نعترف بأن العولمة قد حققت، فعليا، نوعا من التقارب والتداخل بين الهويات والثقافات المختلفة عبر ثورة الاتصالات الجارفة والتى جعلت من العالم «قرية كونية صغيرة» على نحو من الأنحاء، إلا أنه لا يمكننا التسليم بإمكانية انهيار الهويات لصالح هوية واحدة كونية. نظرا إلى أن مفهوم الهوية لا يتشكل ولا يتحور حسب الاحتكاك أو الانغلاق فقط، ولكنه يمثل، أيضا، الرابط الثقافى الاجتماعى للجماعة البشرية المحددة، وبخاصة عندما يتهددها خطر الاجتياح والاقتلاع. وهو ما ينطبق على معظم الثقافات التقليدية وثقافات دول الجنوب. وأيضا عندما تصبح مصادرة الهويات ودمجها نوعا من إعداد المسرح لهيمنة هوية أخرى تدعى لنفسها العالمية والكونية، تقوم بالتمهيد لهيمنة قوى اقتصادية وسياسية عظمى تحاول السيطرة على مقدرات العالم، وبخاصة شعوبه الفقيرة والمستضعفة، وأقصد بها قوى الرأسمالية الغربية ذات النزوع الإمبريالى.
وذلك عن طريق تحقيق الهيمنة الثقافية والإعلامية. وهو ما يجعل من الشأن الثقافى والأدبى متجاوزا للوظيفة الفكرية - الجمالية المجردة، ليصبح شأنا سياسيا بامتياز.  
ولعل هذا ما يجعلنا قادرين على تفسير ظهور مدرسة مهمة فى مجال النقد الأدبى والثقافى تحاول تفنيد أساليب الهيمنة الثقافية والتدجين الأدبى تسمى «نظرية ما بعد الاستعمار» post colonialism theory، حيث يحاول مفكر كبير مثل تيرى ايجلتون كشف زيف الممارسة الإعلامية والثقافية البرجوازية الغربية، التى تستهدف تسطيح مفهوم الثقافة وسجنه داخل أطر منعزلة غير متداخلة ولا مرتبطة على أى نحو نسقى أو مفاهيمى عام فى كتابه «فكرة الثقافة».
وكذلك المفكر العربى الفلسطينى إدوارد سعيد الذى يقوم بتعرية وكشف أساليب الهيمنة الثقافية الاستعمارية فى كتابه «الثقافة والإمبريالية»، والمفكر الهندى هومى بابا الذى يبحث عن جدوى الفعل الثقافى فى مواجهة أشكال محاولات التنميط والإلحاق الثقافيين الناتجين عن موجة العولمة التى تقودها وتستثمرها القوى ذات المصالح الإمبريالية فى كتابه «موقع الثقافة»، وهو الصنيع ذاته الذى تقوم به آنيا لومبا فى كتابها «نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية».. إلخ.. وهو ما يحعلنا قادرين على تفسير ظهور عدد من الكتب المهمة التى تناقش الهوية الثقافية للمجتمع المصرى مثل الكتاب الموسوعى: «شخصية مصر» لجمال حمدان، وكذلك كتاب «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية» لميلاد حنا.
ما بعد الاستعمار والوعى بالذات
نشأت المشاعر الوطنية والوعى بالذات الثقافية والحضارية لدى الشعب المصرى فى وقت باكر للغاية، قياسا بباقى شعوب المنطقة. حيث يرجع فوزى جرجس فى كتابه «دراسات فى تاريخ مصر السياسى منذ العصر المملوكى» ظهور الشعور الوطنى لدى المصريين  إلى الحملة الفرنسية التى جاءت إلى مصر عام 1798 فى وقت كانت مصر فيه تحت الحكم العثمانى. حيث انسحبت القوات العثمانية ولم تدافع عن مصر، كما هرب أمراء المماليك (وقد كانوا حكاما بالوكالة) إلى الشام والصعيد.
ولم يقف فى وجه الغزاة الفرنسيين إلا الشعب المصرى الأعزل الذى اكتشف ذاته فى غمرة ثوراته وتضحياته الجسيمة فى مواجهته غير المتكافئة مع عدو ينتمى إلى العصر الحديث بينما لايزال يرفل هو فى ظلام وتعاسة أوضاع العصور الوسطى.. لقد اكتشف انتماءه لهذا البلد وأحقيته فى اختيار حكامه فرفض تولية الوالى الذى أرسلته الأستانة (خورشيد باشا) واختار هو بنفسه، ربما لأول مرة فى تاريخه، حاكمه. وكان محمد على باشا. ومنذ هذا التاريخ ومصر إما دولة مستقلة أو شبه مستقلة حتى اليوم على تعاقب الفترات التاريخية. حيث نشأت تلك المشاعر حسب القاعدة التى قدمها إدوارد سعيد فى كتابه سالف الذكر، والتى تقول : «لا يمكننا أن نعرف من نحن إلا إذا عرفنا من ليس نحن» (الثقافة والإمبريالية). وقد كان الفضل الأكبر فى هذا الإحساس الوطنى الباكر لدى المصريين إنما يرجع إلى وجود نوع من التطور الطبقى شبه البرجوازى المتمثل فى طوائف الحرفيين والتجار التى تمتعت بنوع من التنظيم الداخلى المتين مما جعلها قادرة على الوعى بمصالحها وعلى التحرك الجماعى بمقتضى هذا الوعى. فهى التى قادت المظاهرات ونظمت فعاليات ثورتى القاهرة: الأولى والثانية، فى الأحياء والميادين، حتى عد شيوخ الطوائف الحرفية الزعماء الحقيقيين للشعب المصرى. مع بعض المساندة الروحية لشيوخ الأزهر.
ومن هنا تعد عوامل نشأة المشاعر الوطنية فى مصر مشابهة، إلى حد ما، لنشأة «مفهوم الدولة القومية» البرجوازى الأوربى السابق قليلا فى العهد.
المشاعر الوطنية والدولة القومية
ولقد حاول بعض كتاب الرواية فى «المرحلة الرومانسية» اعتبار المشاعر الوطنية المصرية قديمة قدم الدولة المصرية ذاتها، أى منذ العهد الفرعونى القديم، والحقيقة أن هذا الزعم يمكن الرد عليه بأن الشعوب فى هذه الأزمنة السحيقة ذات الطبيعة «الإمبراطورية» القائمة على تأليه الملوك والحكام والقائمة على أنواع من مفاهيم «الحق الإلهى» وأن «الحاكم ظل الله على الأرض».. الخ، لم تتمتع بأى وعى وطنى محدد لأن الشعوب فيه كانت تعد نفسها رعايا للملك قبل أن يكونوا مواطنين منتمين لأرض بعينها.
كما أن الملوك لم يعتبروا أنفسهم حكاما لأرض بعينها بقدر ما كانوا حكاما لكل الأراضى التى يستطيعون السيطرة عليها، وكما قال أحد الأباطرة الرومان «إن حدود مملكتى تقع عند آخر نقطة تصل إليها سنابك خيلى». وذلك مع خصوصية استثنائية لمصر التى كانت تمثل نوعا من القداسة لدى سكانها الذين لم يعرفوا أرضا تعادل غناها ولا رغدها.
كما حاول بعض الباحثين (مثل جمال حمدان) تفسير مظاهر التجانس لدى الشخصية المصرية بعزوها إلى التجانس الطبيعى (الجيولوجى) والمناخى للإقليم المصرى، متحدثا عن أن مصر هبة المكان (العبقرى)، حيث إن المكان، بما يحتويه من مكونات بيئية (نهرية وزراعية ومناخية معينة) هو العنصر الفاعل فى تكوين الشخصية المصرية وما يتبعها من أنماط حكم وإدارة وأمن.. إلخ. والحقيقة أن هذه النظرية هى على التحديد أحد تجليات «النظرية الوضعية» فى تفسير التاريخ والتى نجدها متمثلة عند واحد من أبرز باحثيها هو كارل فدفوجل صاحب «نظرية الطغيان» despotism theory التى اشتق منها ما يسمى بـ«الاستبداد الشرقى» oriental despotism. و«وضعية» هذه النظرية تقوم على أساس اعتبار «البيئة» بما فيها الطبيعة الجيولوجية والموقع الجغرافى والمناخ والنهر.. إلخ هى التى تحدد طبيعة السكان وأنماط الحكم.. إلخ.
من هنا تتغاير طبيعة الحضارات النهرية التى تقتضى حكما مركزيا استبداديا يقيم دولة على كامل إقليم النهر،عن الدول القائمة على الزراعة المطرية التى لا تحتاج إلى إقليم بل يمكن أن تقوم الدولة فى مدينة واحدة (الدولة المدينة) ذات الحكم (الديمقراطى) مثل أثينا وكورنثة وإسبرطة.. الخ.
إن خطورة هذه النظرية إنما تكمن فى أنها تحكم (بتشديد وكسرالكاف) الثابت (المكان) فى المتغير (المجتمع)، ومن ثم فهى تجعل السمات الشخصية لشعب بعينه سمات أبدية لا تتغير عبر الزمن، كما أنه يجعل من أنماط الحكم وأساليب الممارسة السياسية قدرا «تاريخيا» تفرضه «الجغرافيا»، ولا فكاك منه مهما حاولت الشعوب.
المكان والزمان وتطور شخصية الشعب
 والحقيقة أن السمات الشخصية للشعوب تقوم، جزئيا، على أساس ومعطيات الواقع البيئى، ولكنها تتطور على ضوء مستوى تطور أساليب الإنتاج وعلاقاته. فالمرحلة العبودية من تطور عملية الإنتاج لم تستثن شعبا من الشعوب خلال حقبة معينة من سيطرة المستوى البدائى لوسائل الإنتاج. وكذلك المراحل اللاحقة من إقطاع ورأسمالية، بكل مستتبعات تلك المراحل من أنماط حكم ومفاهيم للدولة والشعب.. إلخ.
من هنا نستطيع أن نقول أن «الجغرافيا» لايمكنها أن تحكم «التاريخ»، وإن أثرت فيه على نحو معين بكل تأكيد. كما أن «المكان» لا يمكنه أن يوقف عجلة الزمان، وإن أثر فى سرعته بلا مراء.. وعليه فإن الشخصية المصرية قد تأثرت، بلاشك، بموقعها الجغرافى ونشاطها الزراعى، بيد أن تطورها لم يقف عند هذين العاملين، بدليل تطور هذه الشخصية وتعدد أنماطها عبر الأزمان.. حيث يمكننا القول إن الهوية الوطنية متحركة ومتعددة عند جميع الشعوب، فلا يمكن تصور وجود شعب بكامله يمثل كتلة صماء مصمتة ويتميز بسمات واحدة عند جميع طبقاته وأقاليمه وفئاته. وإن هذه السمات خالدة عبر الزمان. أن هذا التصور يوقعنا مباشرة فى التعصب القومى المقيت، المرادف للشوفينية والعنصرية، فضلا عن كون هذه التصورات تقوم على رؤية مثالية تفتقر إلى أى نظرة موضوعية علمية لقوانين تطور المجتمعات والشعوب.
إن شخصية مصر الحقيقية إنما ترجع، فيما أزعم، فى جزء منها، إلى كونها أمة قديمة موحدة منذ فجر التاريخ، وهذا ما يميزها فى الحقيقة عن كثير من الأمم، وربما لا يدانيها فى ذلك إلا الأمتان الصينية والهندية. وقد تكونت ثقافة مصر وهويتها من حصيلة تراكم الخبرة التاريخية الموغلة فى القدم، والتى حوت من التقلبات والتغيرات والدروس والمعانى والقيم والدلالات ما مثلته الأحداث الجسام التى كونت هذا التاريخ، وهو الأمر الذى يخلق تبعا لكارل يونج نوعا من الخبرة النفسية الجماعية (نسبيا بالطبع) أو ما يسميه بـ«السيكولوجيا الاجتماعية».. وفى جزء آخر تتشكل الشخصية المصرية تبعا للتحديات الراهنة مع بعض المقاربات الخفيفة التى تربطها بالتحديات السابقة المشابهة، وهو الأمر الذى يمكن أن يكون رأيا عاما شبه موحد تجاه قضايا بعينها مثل تحدى الاستبداد وتحدى الهيمنة الخارجية أو انتقاص الاستقلال الوطنى، وتحدى الظلم الاجتماعى.. كما تتشكل الشخصية الشعبية المصرية (وبخاصة فى لحظتنا الراهنة) فى ضوء التشوه الحضارى الذى لم يستطع حسم الكثير من القضايا ولا الإجابة عن الكثير من الأسئلة، بل أنه يكاد يزاوج بين التناقضات وتتعايش داخله كثير من الأفكار وأضدادها. فهناك التعاليم الدينية وهناك النزعات العلمانية، وهناك موروث عبادة الحكام وأيضا النزوع نحو الثورة عليهم، وهناك كراهية الغرب وهناك الإعجاب به فى الآن نفسه.
وهناك الأحياء الفقيرة والعشوائية التى تجاور الكمباوندات ذات القصور والحدائق، بثقافة ووعى وانحياز ومشاعر متغايرة بالكلية.
وهناك ثقافة نوع من النخبة شبه الغربية المنتمية إلى عالم الحداثة وما بعد الحداثة التى تتجاور مع ثقافة تقليدية شبه سلفية إن لم تكن سلفية بالكامل.
لا بد أن نعترف بأننا فى مرحلة أزمة حضارية عاصفة مليئة بالأسئلة الكبرى وحبلى بكل أنواع الإجابات المحتملة.
ولابد لنا أن نقر بأن الأعمدة السبع الكبرى التى تحدث عنها ميلاد حنا والمتشكلة من «رقائق التاريخ» المتعاقبة، (من فرعونية ويونانية رومانية وقبطية وعربية إسلامية وإفريقية.. إلخ) ليست كافية لفهم «الشخصية المصرية» إذا ادعينا أن هناك «شخصية» واحدة تنتظم كل (أو حتى معظم) المصريين.•