البدلة المحلاوى والبيجامة الكستور

بهيجة حسين وريشة الفنان حجازى
وكأنى التقيت بصديق قديم فجأة ومن دون ميعاد. تلك الفرحة التى تغمر الكون من حولك، ولولا قليل من الوقار والمراعاة لهامش التقاليد، لكنت فتحت حضنك أمام شوق دافئ تسرب من تحت الجلد للروح. كانت تلك اللحظة التى لم أفقد إحساسى بها، تلك اللحظة التى عدت معها لسنوات هى الأجمل، سنوات الحلم.
أمسكت يومها بالحلم الغائب أو الصديق الغائب ووقفت أتأمله وأتشمم رائحة لم أنسها لحظة، رائحة قماش الفساتين والبيجامات التى كنت أرتديها وأنا طفلة، ولم أتوقف عن البحث عنها أملاً فى أن أجدها بعد سنوات الغياب، رغم أن الواقع المعروض خلف الفتارين الزجاجية الباردة وعلى الأرصفة، يتحدى بصلف قدرة الحلم على العودة لمكانه ومكانته بعد أن كان هو الحقيقة، والحقيقية هنا هى فساتين طفولتى الملونة.
عدت من تلك المنطقة الأثيرة مع صوت البائع يسألني: «هل سأشترى البيجامة المحلاوى الكستور المقلمة أم نخلينا فى المستورد»؟ وكأنه يتهمنى بخيانة أيامى وأحلامى فرددت عليه بقوة وكأنى أرد له الاتهام، فأتهمه بالغفلة وعدم الفهم «طبعا حاشترى الكستور المحلاوى المقلم» - كنت أشترى البيجامة هدية لزوجى فى عيد ميلاده.
حملت البيجامة بين يدى أو وبشكل أدق ضممتها إلى صدرى، كانت بقايا حلم تم بيعه مع بيع الجدران والمكن والصنايعية. كانت البيجامة ربما قطعة أخيرة فوق رف بائس من رفوف صرح قديم، هو عمر أفندى.
سرت فى الطريق ومع ذكريات الحلم الذى كان، تداعت أمامى صور حلم الرجل لنا وبنا، وحقق منها قدر ما استطاع أو مكنته الظروف والأوضاع التاريخية والشخصية أيضًا.
ظهرت صورته بين عينى وهو يرتدى بدلته المحلاوى، إنتاج القلعة الصناعية بالمحلة الكبرى. كان يحلم أن نلبس من صنع أيدى صنايعية مصر، ومن إنتاج مكن مصانعها الداير، كان يسمع صوتها كأنها زغاريد الفرح، ودائمًا ما كنت أتصور أنها حقا زغاريد.
سرت فى الطريق أحمل أحلاما لم تفارقنى لحظة، هى حقوق، هى حق بلد وشعب وأجيال، وقد حلمنا معه وغنينا بيقين وثقة «من أموالنا بإيد عمالنا».
لما أتحدث عن مجرد حلم؟ بينما عاشه جيلى فى الواقع. ألم يكن الحلم حقيقة فى أغنية عبدالحليم وكلمات صلاح جاهين «تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا» أليست بيوت وقصور الثقافة الممتدة بطول البلاد وعرضها هى أوبرا الفلاحين والعمال، هى أوبرا المصريين التى نشرت فى ربوع الوادى الفن والثقافة! كانت مسارح تلك الصروح تعرض مسرحيات برخت ويوسف إدريس وغيرهما. سرت أحمل الحلم ورائحة عرق الشغّيلة فى البيجامة الكستور المقلمة.
غنيت وأنا فى الطريق تلك الأغنية «يا بنت بلدى زعيمنا قال قومى وجاهدى ويَّا الرجال» أغنية شكلت وجدان بنات جيل، شاركن فى بناء وطنهن. بنات جيل رمزهن ومثلهن الأعلى جميلة بوحريد، وسميرة موسى وروزاليوسف وغيرهن. كان حلم الرجل حلمًا كبيرًا يبدأ بأن نأكل من زرع أيدينا ونلبس من إنتاج مصانعنا. الرجل الذى كان آخر ما لامس جسده البدلة المحلاوى التى ودع بها رؤساء وملوك، كان يحلم بوحدة شعوبهم وبلدانهم. وشربت قطرات عرقه الأخيرة خيوط القطن المزروع بأيادى الفلاحين المصريين ونسجه صنايعية مصر. وكان الشاهد على نفسه الأخير البيجامة الكستور المقلمة.. كان هذا هو حلم جمال عبدالناصر.