السبت 5 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مرونة جسم.. وضغط نفسى!!

مرونة جسم.. وضغط نفسى!!
مرونة جسم.. وضغط نفسى!!


منذ أن كان ابنى «يوسف» فى عامه الثانى وبضعة أشهر، كان يسعد سعادة بالغة عندما يقترب من صالة الجمباز، ويحاول أن يقلد حركات الأطفال والكبار داخل الصالة، وقد أعطتنا سعادته إشارة إلى أنه سيكون بطلاً فى تلك اللعبة، وبالفعل بدأنا تدريجياً الانتظام فى التمرينات حتى أتم عامه الرابع ودخل مدرسة الجمباز التى تضم أطفالاً فى مثل عمره، وبعد مرحلة ما من التدريب سيتم اختبارهم وتقييمهم واختيار من سينضم إلى فريق النادى..

وبدأنا رحلة الجمباز التى دخلت إطار الجدية أكثر.. حيث أربعة أيام تدريب أسبوعيا، مدة التمرين ثلاث ساعات فى اليوم تتخللها استراحة قصيرة، عدد المدربين وصل إلى ثلاثة يتم تقسيم المجموعة عليهم، بدأت تمرينات الضغط أى تدريبات (المرونة) التى يضغط فيها المدرب على الطفل فى حركة اتساع الساقين (جراند كار)، وكذلك مرونة اليدين، وتمرينات (البار)، كلها حركات أساسية للعبة، والتى من خلالها يتم فهم المدرب لجسم الطفل، ونقاط قوته وضعفه ودرجة لياقته ومرونة جسده، كل هذه التمرينات تزداد يوماً بعد يوم ويزداد معها صراخ الأطفال وبكائهم الهيستيري- كل طفل وفق شخصيته ودرجة احتماله- وكنت أفخر بيوسف وأنا أراه يتحسن يوماً بعد يوم، وتزداد مرونته، وتزداد درجة احتماله. ولكن ما لم يكن محتملاً بالنسبة لى أو ليوسف هو أداء أغلب المدربين من قسوة وصوت عال وصراخ فى الأطفال، وتعامل أقل ما يوصف به أنه تعامل شديد الغباء لا علاقة له من قريب أو بعيد بالصحة النفسية للطفل.
تحول خوف الأطفال ومنهم يوسف ليس من حركات المرونة الضاغطة الشاقة على أجسادهم الضعيفة، لكن هو خوف من غضب وصراخ المدرب (الذى يوصف بأنه محترف ومن أقوى المدربين)، وتحدثت مرارا وتكرارا معهم مطالبة إياهم بتحسين المعاملة، ومراعاة نفسية الأطفال، وكيفية كسب ودهم، والتحاور معهم طويلاً عن أن هؤلاء الأطفال (كانوا لابسين حفاضات من شهور)، فعليكم أن تدركوا إلى أى مدى هم صغار خرجوا لتوهم من مرحلة «البيبى»، وكانت النتيجة هى ردود ساذجة مثل: أصلهم بيتكلموا فى التمرين، إنهم أشقياء.. إلخ.
المشكلة الحقيقية تكمن فى كثير من الأمهات اللاتى يتعاملن مع هذه الطريقة على أنها «عادى» وأن هذا هو الواقع الرياضى، وأنك ستجدين كل الرياضات فيها «شتيمة وضرب وإهانة».
بعد التزام منقطع النظير ومحاولات لتغيير ذلك النمط وتحمل ابنى للعديد من الضغوط الجسمانية والنفسية، تم بحمد الله اختياره فى فريق الجمباز بعد إتمام الاختبار والتصفيات، ولكن جاءت لحظة المواجهة.
يوسف : مش عاوز أروح الجمباز: علشان الكابتن بيزعق وأنا باخاف م الصوت العالى وكمان هو بيشتمنا ومش بيحبنى!!
أنا: يبقى لازم تقول الكلام ده بنفسك للكابتن علشان يعرف ليه أنت مش عاوز تتدرب تانى.
يوسف : قولى له انت!!
أنا : أنت إللى بتتدرب مش أنا.. إحنا متفقين إنك لازم تعبر عن إللى أنت حاسس به بنفسك وما تخافش أبداً.
بعد محاولات ومجادلات كثيرة دامت شهوراً، وبعد أن أصبح يوسف خمسة أعوام وشهوراً قليلة.. وكعادته.. يدخل التمرين باكياً.
فى يوم ما.. دخل ابنى صالة الجمباز يبكى ووقف أمام المدرب «المرعب» بالنسبة له، والذى أعتبره السبب فى «طفشان يوسف من اللعبة».. وبتأفف من الكابتن وسعة صدر لا تتجاوز خرم الإبرة: بتعيط ليه يا ابنى.. مش ح تكبر بقى وتبقى راجل؟!
يوسف ببراءة وحكمة مبهرة: أنا باعيط علشان أنا جاى اسلم عليكم علشان دى آخر مرة أدخل الجمباز.
الكابتن ونظر لى باستياء مطالباً بالترجمة: مش فاهم يعنى.. عاوز إيه؟
يوسف: خلاص يا كابتن.. أنا بقيت باعرف الجمباز كله ومش جاى تانى!!.
المدرب تركه فى إيماءة استنكار بيده ليوسف ولى وهو  يتمتم بغضب: منكم بقى للمدير الفنى اتفاهموا معاه.
وقد تركنا المدرب.. وفى محاولة رحيمة من المدرب الفنى للمناقشة مع يوسف لكنها كانت يائسة.. وكان قرار يوسف نهائياً وبلا رجعة.
وظل لشهور يتحاشى أن يمر بجوار صالة الجمباز فى النادى. ولم يحاول ذلك المدرب يوماً ما أن يسأل أو حتى يفهم لماذا فقد طفلاً من فريقه الذى من المفترض أن يكون هو الأب الروحى لهم، وهم أمانة فى يديه.. ترك يوسف رياضة الجمباز بعد أن تعلم المواجهة وتقرير مصيره بيده.
المكسب الحقيقى ليوسف وهو فى الجمباز أنه استفاد بمرونة جسدية مناسبة، والميزة الأعظم عندما ترك رياضة الجمباز أنه تعلم كيف يعبر عن مشاعره وأن يواجه «الجبروت» بحكمة.. وقد اختار ابنى مرونة  الإحساس والعقل.. ولله الحمد. •