الجمعة 24 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
حين يكره البعض السلام

حين يكره البعض السلام

منذ أن خلق الله الأرض، كانت هناك دائمًا فئة من البشر لا يطيب لهم العيش فى سلام، يرون فى الحرب مجدًا وفى الصراع إثباتًا للذات وفى الصلح ضعفًا، وفى الخصومة بطولة وتحديًا. لم يَخلُ التاريخ يومًا من هؤلاء الذين يكرهون السكون ويقتاتون على الفوضى، رغم أن تجارب الأمم كلها أثبتت أن المنتصر الحقيقى هو من يعرف متى يضع السلاح، لا من يرفعه.



ففى صفحات التاريخ، من العصور الوسطي، نقرأ عن البطل المقاتل صلاح الدين الأيوبي، القائد الذى خلد اسمه فى وجدان العرب والمسلمين بعد معركة حطين عام 1187م، حين حرر القدس ووحد الصفوف بعد سنوات من الانقسام. كان نصره فى حطين لحظة فخرٍ للأمة بأسرها، واستردادًا لأراض ومقدسات ظن العرب أنها لن تعود إليهم أبدًا، لكن النصر وحده لم يكن نهاية المعركة، بل بداية مرحلة جديدة أكثر صعوبة: مرحلة وقف القتال ونشر السلام.

وكما أن صلاح الدين لم يسلم من الانتقاد، لم يسلم ريتشارد قلب الأسد نفسه، وفى العصر الحديث بعد انتصارنا العظيم واستردادنا لسيناء الحبيبة، هاجم البعض مصرو قائدها العظيم، ورأوا فى حقن الدماء ووقف القتال خيانة. والنتيجة أن التاريخ وحده فاز بتسجيل هذه الدروس للأجيال.

الدرس البليغ الذى يقدمه لنا التاريخ أن السلام لا يصنعه الضعفاء، بل الشجعان الذين يدركون أن النصر لا يُقاس بعدد المعارك، بل بعدد الأرواح التى نُنقذها.

 فالقائد الحقيقى ليس من يطيل أمد الحرب ليُرضى الغاضبين، بل من يختار لحظة التوقف بحكمة ليحفظ مستقبل أمته.

 القائد الرشيد الذى يحتمل شتى أنواع الضغوط فلا يثنى ذلك له عزمًا ولا يحنى له قامة، القائد الحكيم الذى لا يلقى بأبناء بلاده فى حرب إلا لتحرير أرضه ويجيد التفاوض ليقيم السلام فى النهاية أيضًا على أرضه وعلى حدود وطنه غير مكترث بمحاولات النيل من عزيمته. من راهن على إضعاف همته، هو من أتى فى النهاية إليه موقنًا بأنه لا مفر من التصالح ولا جدوى من الحرب.  

اليوم، وبعد قرون من حطين وصلح الرملة، وبعد اثنين وخمسين عامًا من النصر ما زالت البشرية تعيد المشهد ذاته بأشكال جديدة. 

هناك دائمًا من يرفض وهناك من يصمّ أذنه عن صوت العقل، لأن فى داخله نزعة قديمة: نزعة الكراهية التى لا تشبع إلا من رماد الحروب.

 حقًا من قال إن التاريخ يعيد نفسه بصياغة جديدة ولكن النفس البشرية واحدة بنزعاتها المعتادة منذ بدء الخليقة.