الأربعاء 1 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الوجه الآخر لـ فتحى غانم

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

فتحى غانم.. علم من أعلام الصحافة والأدب.

وبالنسبة لى هو الصحفى الكبير الذى اكتشفنى وكنت فى السادسة عشرة من عمرى طالبًا فى السنة الأولى الثانوية.. لكن الأقدار شاءت أن يكون قد غادر رئاسة تحرير «صباح الخير» الذى نشر لى فيها مقالاً كنت كتبته فى مجلة حائط مدرسية، فقد اختير لتولى منصب رئيس وكالة الأنباء المصرية.. فى السنة التى دخلت فيها المجلة كمحرر تحت التمرين ومساعد للمخرج.  

 

 

وكلنا – أو أكثرنا - نعرف فتحى غانم الكاتب الصحفى ونعرف تاريخه وإنجازاته فى عالم الصحافة، وكيف أنه مارس كل ألوان العمل الصحفى، بل كان يكتب عن الأزياء والطبيخ والرضاعة وتربية الأطفال والعناية بالبيت.. فى المجلات التى عمل فيها قبل التحاقه بـ«صباح الخير» منذ انطلاقها وأصبح مديرًا لتحريرها ثم رئيسًا للتحرير.

ونعلم أن له أسلوبًا مميزًا فى تقدير فريق الكتاب والمحررين والرسامين الذى يقوده.. فهو مثلاً يبعث بعبدالله الطوخى والفنان حجازى ويساندهما فى مشروع صحفى لا مثيل له فى تاريخ الصحافة المصرية هو «رباعية النهر».

ويحوّل اسم صبرى موسى إلى عنوان لمقالات وحكايات صبرى موسى.. ويستمع إلى انزعاج وهجوم الرئيس جمال عبدالناصر على كاريكاتير حجازى فى اجتماع للرئيس مع رؤساء التحرير، فيحتفظ بالأمر لنفسه ولا يخبر حجازى، فهو يرى أن الفنان يجب أن تترك له الحرية دون تدخّل من أحد وأن الحَكَم على أعماله هو جمهور القرّاء.

وجمهور حجازى – كما نعلم – يحبه ويحترمه ويفخر به.. كما يفخر به فتحى غانم.

تحدى العميد

ونعرف عن هذا الكاتب والناقد والروائى الكبير أنه تحدى فى كتاباته منذ بدايته، أعلامًا من درجة الدكتور طه حسين مشيرًا إلى أن تمسكه الشديد بالشكل التقليدى للأدب يعتبر عقبة ضخمة فى طريق تطور القصة القصيرة.

وتعرض نتيجة لذلك إلى هجوم من تلاميذ وأتباع عميد الأدب العربى، لكن الدكتور طه حسين دعاه للقاء تحاور فيه معه حول أفكاره ورحب به وبأفكاره.

ومن الطريف أن إحسان عبدالقدوس الذى ضمه لمجلة «روزاليوسف» وخصص له بابًا بعنوان «أدب» أوقفه عن العمل وألغى الباب لأن فتحى غانم كتب مقالًا ينتقد فيه رواية «الخيط الرفيع» لإحسان قال فيه إنها ليس فيها فن، وأنها رواية «بايخة» وليست أدبًا.

ومنع إحسان نشر المقال، إلا أن السيدة فاطمة اليوسف صاحبة المجلة نهت ابنها إحسان عن كل هذا، وأعادت فتحى غانم وبابه «أدب» وقررت نشر المقال، وقالت لابنها رئيس تحرير «روزاليوسف».. إن لكل إنسان رأيًا، ونحن يجب أن نحترم آراء الناس رغم اختلافنا معها.

وفى عالم الأدب استطاع فتحى غانم أن يضع اسمه فى المقدمة بإبداعه المتميز، ولم يكن يخفى أنه دخل عالم الصحافة كأديب يتطلع إلى نشر رواياته.

ولا أريد أن أطيل فى الحديث عن صحافة وروايات هذا الأستاذ، فلديّ رغبة فى تقديم الوجه الآخر لفتحى غانم الذى قد لا يعرفه كثيرون، وهو كونه يحمل لقب «أستاذ كبير» فى الشطرنج.. تقديرًا لتفوقه فى هذه الرياضة الذهنية العصبية المثيرة.

وقد أتيحت لى أكثر من فرصة للتعرف على هذا الوجه المدهش.

وعلمت ولاحظت أنه كان يمضى ساعات طويلة فى منازلة لاعبى الشطرنج سواء فى مقاهى القاهرة أو فى نادى الجزيرة.

واعتقادى الشخصى أن فتحى غانم هو لاعب شطرنج متفوق يعمل بالصحافة ويبدع فى الأدب بعقلية بطل الشطرنج.

فالشطرنج يحفز العقل من خلال التحدى ومواجهة الاحتمالات اللانهائية وينشط التفكير الاستراتيجى لدى الإنسان ويشكل لديه عقلية التخطيط والقدرة على اتخاذ القرار.. وطبعًا يرفع مستوى الذكاء.. ويعزز القدرة على التركيز وضبط الانفعالات. 

وكلها صفات توافرت لدى كاتبنا الكبير الذى أعتقد أننا لم نعطه حقه فى تقدير إبداعاته وتكريمه.

ونلاحظ أنه قابل كل هذا التجاهل المتعمد من السلطات الثقافية بهدوء، فمثلاً نجده يستفيد من قرار السادات بعزله من رئاسة تحرير «روزاليوسف» لأنه تصدى لاتهام الانتفاضة الشعبية ضد قرار الحكومة رفع أسعار المواد الغذائية، بأنها – بوصف السادات – «انتفاضة حرامية»!

اعتبر كاتبنا الجليل أن هذا القرار الانفعالى على الرغم من رضوخ السادات لإرادة الانتفاضة والتراجع عن رفع الأسعار.. اعتبرها فتحى غانم فرصة تتيح له الوقت الكافى للتفرغ لإنجاز روايته الشهيرة «زينب والعرش»!

إنها عقلية لاعب الشطرنج الماهر: هدوء الأعصاب.. والتفكير الاستراتيجى وحسن مواجهة الصعاب والإبداع.

وعودة إلى الشطرنج، فذات مرة كنت أزوره فى بيته فإذا بى أجده يخوض معركة شطرنجية حامية مع واحد من ألمع القيادات فى تاريخ العسكرية المصرية هو – مع حفظ الألقاب والرتب العسكرية - سعد الدين الشاذلى.. وكان شطرنجيًا خطيرًا.

وقد وجدت نفسى أتابع المباراة الشيقة باهتمام زائد ربما لأنها تذكّرنى بميولى الشطرنجية القديمة التى تلاشت للأسف مع تحوّل اهتماماتى إلى الفن والأدب والصحافة، وليتنى تعلمت من الأستاذ فتحى غانم أن أتحوّل إلى كائن شطرنجى فى مختلف مناحى حياتى.

قد يسألنى القارئ بدافع غريزة حب الاستطلاع: ومن كان الفائز فى المباراة؟!

فأقول، بكل أسف، أننى بسبب عامل مرور الزمن من حوالى نصف قرن أو أكثر، نسيت مَنْ كان الفائز!

وربما أن عقلى الباطن أزال هذه المعلومة من رأسى بحكم إعجابى بالمتنافسين الكبيرين. وبحكم اغتباطى بحسن حظى الذى حقق لى شهود هذه المباراة المثيرة.

ولا أريد أن أنسى أن الشطرنج ظهر فى صورة مباشرة فى إحدى روايات فتحى غانم وهى «قط وفأر فى قطار». وروى الناقد فاروق عبدالقادر أنه كان فى رحلة فى صحبة فتحى غانم وقابلا أحد لاعبى الشطرنج الروس وعندما جلس ليلعب معه سأله: هل أنت فتحى غانم المصرى؟ 

 

 

 

ويقول فاروق عبدالقادر: «فاكتشفت أنه يتمتع بشهرة فى لعب الشطرنج ليس فى مصر وحدها، ولكن فى العالم بأسره»!

تبقى لى حكاية أخيرة هى أننى كنت من معاونيه عندما نظم مسابقة كبيرة فى الشطرنج أقامها فى مقهى «بورصة الحرية» فى ميدان باب اللوق وهو مقهى عريق ويشغل مساحة كبيرة جدًا.

وجرت المنافسات فى واحدة من أكثر قاعاته اتساعًا، ودامت نحو أسبوعين كان يشرف عليها بنفسه يوميًا.

وحكيت له وقتها أننى فى المرحلة الثانوية نظمت مسابقة شبيهة لكن أصغر بكثير.. وذلك فى النادى الاجتماعى للمدينة السكنية الملحقة بمصانع الأسمدة فى عتاقة – السويس.. حيث نعيش.

وذكرت له واقعة مثيرة حدثت لى وقتها حيث فاجأنا رئيس النادى - الذى لم يكن يعلم بأمر المسابقة - فاتجه نحوى صارخًا وصفعنى على خدى بقوة لأنى نظمت المسابقة دون إذنه.. فوجدت نفسى بهدوء أعطيه خدى الآخر.

فإذا بالرجل يتقدم نحوى ويعتذر منى ومن المشاركين فى المسابقة ويطلب منا الاستمرار.

أدهشت حكايتى فتحى غانم وحيانى على تصرّفى الهادئ كمحب للشطرنج، لكنه سألنى عن سر عدم إخطار رئيس النادى بالمسابقة.

فقلت إننى والمتسابقون كنا نشك فى أن رئيس النادى سيوافق.. ولذا قررنا اللجوء إلى طريقة فرض الأمر الواقع! فسأل: وكيف إذن تمكنتم من ترتيب المكان والطاولات وأطقم الشطرنج؟

بدأنا نرتب كل شىء بهدوء، فظن العاملون فى النادى وبعض الأعضاء أننا مكلفون بهذه المسابقة من جانب الإدارة أو أنها على علم بها، فتعاونوا معنا وسهّلوا عملنا. 

لم أكن أريد أن أتوقف عن الحديث فى هذا المجال، لكننى أنهيه بأن أستاذ الشطرنج فتحى غانم خصص بابًا للترويج للعبة فى «روزاليوسف» يكتبه بطل مصر عصام عبد الرازق تحت إشرافه. 

وفى الأسبوع المقبل نواصل.