
عادل حافظ
بداية جديدة
إلهام رقمى
فى عالم يستخدم فيه أكثر من 1.4 مليار شخص نظام تشغيل «ويندوز» يوميًّا، وتعمل به أكثر من 90% من الشركات الكبرى ضمن شبكاتها التشغيلية، وتصل أدوات «مايكروسوفت» الإنتاجية إلى أكثر من 600 مليون مستخدم فعال شهريًا حول العالم، وذلك حسب تقرير الشركة السنوى لعام 2024.
أدت هذه الأرقام البسيطة، إلى صعوبة تخيل الحياة الحديثة دون الأثر العميق لرجل كان وراء هذا الإنجاز الكبير. فقد نشرت مجلة «فوربس» كلمات قالها «بيل جيتس» وهى تلخص فلسفة مسيرةٍ بدأت بحلم مراهقٍ فضولى، وانتهت بإمبراطورية معرفية وتكنولوجية غيرت وجه البشرية. فقال «ليس للمال أى فائدة تُذكر بالنسبة لى بعد حدّ معين، فكل فائدته الحقيقية تكمن فى بناء المنظمات، وإيصال الموارد إلى أفقر فقراء العالم».
وُلد ويليام هنرى جيتس الثالث فى مدينة «سياتل» بولاية «واشنطن» الأمريكية عام 1955، ويُعرف رسميًا بهذا الاسم كونه الرابع فى تسلسل العائلة الذى يحمل هذا الاسم بعد تنازل والده عن لقب «الثالث»، كما أن أجداده من أصول إنجليزية وألمانية وأيرلندية وأسكتلندية.
نشأ جيتس فى أسرة ميسورة تؤمن بأهمية التعليم والانضباط والعمل الجاد. كان جيتس الولد الوحيد «لويليام هنرى جيتس» الأب، الذى كان محاميًا بارزًا، و«مارى ماكسويل»، التى شغلت مناصب قيادية فى مجالس إدارة مصرفية وخيرية، وكان جده لأمه رئيسًا لبنك وطنى، وله شقيقتان، الكبرى «كريستي» والصغرى «ليبي».
منذ طفولته، كان شغوفًا بالقراءة، يلتهم الموسوعات ويقضى الساعات أمام أولى الحواسيب الضخمة فى مدرسته، يتعلم أسرارها، فى سن الثالثة عشرة، كتب أول برنامج له، ومنذ تلك اللحظة لم يتوقف خياله عن مطاردة المستقبل.
وفى السبعينيات، حين كان العالم لا يرى فى الحاسوب إلا آلات ضخمة محصورة فى المختبرات، رأى جيتس شيئًا مختلفًا: آلة يمكن أن تصبح صديقًا شخصيًا لكل إنسان. ترك جامعة هارفارد ليؤسس مع صديقه بول آلن شركة صغيرة حملت اسم «مايكروسوفت»، وبمنتهى الجرأة أطلق وعدًا سيغير التاريخ فيما بعد، وهو «جهاز حاسوب على كل مكتب، وفى كل منزل».. وقد تحقق الوعد أسرع مما توقع كثيرون.
ففى الثمانينيات، انتشر نظام «ويندوز» كالنار فى الهشيم، فغيّر الطريقة التى يعمل بها الناس، وأطلق ثورة رقمية أزالت الحواجز بين المعرفة والإنسان. لم يعد الحاسوب امتيازًا للنخبة، بل أداة لكل عقلٍ طامح. ومع دخول الإنترنت، كانت الشركة فى قلب الموجة، تشق الطريق نحو العصر الرقمى الذى نعيشه اليوم.
وبعد سنوات، ترك إدارة الشركة ليتفرغ مع زوجته السابقة «ميليندا» لمؤسستهما الخيرية، التى باتت أكبر منظمة غير حكومية فى العالم، تستثمر عشرات المليارات فى مكافحة الفقر والأوبئة وتعليم الأطفال فى الدول النامية.
هناك، بين القرى النائية والمستشفيات الميدانية، يعيد جيتس توجيه الثمار التى حصدها نحو من لم تتسنّ لهم فرصة الحلم أصلًا.
إن هذه الرحلة ليست سيرة رجل أعمال بقدر ما هى شهادة على أنّ العقل حين يقترن بالمسئولية يمكن أن يغيّر مصير البشرية. لقد بدأ صبيًا يحلم بجهاز صغير على كل مكتب، وانتهى رجلًا يسعى لأن يترك على كل طاولة طعام طفل فى إفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية وجبةً تكفى يومه، وكتابًا يفتح له غدًا جديدًا.
قصة بيل جيتس ليست حكاية عبقرية تقنية فحسب، بل إيمانٍ بأن النجاح الحقيقى لا يُقاس بما نملك، بل بما نهب. لقد ألهم أجيالًا من المبتكرين والشباب ورواد الأعمال أن يروا فى التكنولوجيا أداة تحرير، لا مجرد تجارة.
واليوم، وبينما يتجه العالم نحو موجات جديدة من التحولات الرقمية والذكاء الاصطناعى، تظل قصة جيتس تذكيرًا بأن التقدم بلا قيمٍ هو فراغ، وأن المعرفة بلا تعاطفٍ لا تبنى عالمًا عادلًا.
لقد برهن أنّ الثروة ليست نهاية الحلم، بل وقوده.
وهنا يبرز التساؤل: ماذا نفعل بما نملك؟ لسنا مطالبين بتأسيس شركات عملاقة أو مؤسسات بمليارات الدولارات، لكننا مدعوون لأن نكون بذورًا للتغيير فى محيطنا.