
رشاد كامل
بهاء وهيكل.. ذكريات لها تاريخ!
«لم أعمل مع «محمد حسنين هيكل» فى جريدة الأهرام أيام حكم «عبدالناصر» أى أيام وضع «محمد حسنين هيكل» غير العادى فى الحياتين الصحفية والسياسية فى مصر، وإن كنت بالطبع أسمع عنها ما يكفى.. ولم أتعرف إلى «محمد حسنين هيكل» إلا متأخرا، وكان ذلك فى أوائل الستينيات من القرن الماضى بالطبع».
فوجئت بهذا الاعتراف المثير للكاتب الكبير الأستاذ أحمد بهاء الدين الذى جاء ضمن محاوراته مع السادات، ووجه المفاجأة أن الأستاذ بهاء نفسه كان ملء السمع والبصر كاتبًا سياسيًا فى «روزاليوسف» ورئيسًا لتحرير مجلة «صباح الخير» ومن بعدها جريدة الشعب».
وعن بداية المعرفة بين الأستاذين «هيكل» و«بهاء» يرويها الأستاذ بهاء قائلا:
«فى تقديرى أن فك لغز شخصية «جمال عبدالناصر» الشديدة التميز والتفرد فى التاريخ المصرى والعملاق الذى خرج من تراب مصر بعد قرون من الرقاد كفرعون جديد جبار، لا يمكن أن يتم فهمه إلا إذا أمكن فك لغز علاقته بثلاث شخصيات وصداقات كان لها أكبر الأثر فى حياته».
ويكتب الأستاذ بهاء عن هذه الشخصيات الثلاث وهم المشير عبدالحكيم عامر، وأنور السادات، وهيكل، وعنه كتب يقول:
«محمد حسنين هيكل» الصحفى الذى لم يكن من أقرب الناس إليه فى أول الثورة، لكنه صار بعد ذلك فى تقديرى أقرب الناس إليه على الإطلاق، فجعله شريكًا فى الحكم على أعلى مستوى، وأبسط دليل على ذلك أنه حين مرض بأزمة قلبية عنيفة اقتضت منعه من العمل تماما، شكل لجنة تحكم البلاد باسمه كونها من «شعراوى جمعة» وزير داخليته، وأمين هويدى وزير حربيته، وسامى شرف مدير مكتبه و«محمد حسنين هيكل» الذى كان لقبه الرسمى رئيس تحرير الأهرام».

ويمضى الأستاذ أحمد بهاء الدين فى سرد ذكرياته قائلا:
«فى آخر رحلة قام بها جمال عبدالناصر إلى سوريا قبل الانفصال -سنة 1961- وكنت شخصيا من أنصار الوحدة قبل قيامها وقبل إقناع «جمال عبدالناصر» بها، وكنت بالتالى أسافر إلى سوريا كثيرا وأعرف حياتها السياسية والاجتماعية جيدا، وبعد الوحدة كان أكثر ما يثير غضب «جمال عبدالناصر» هو أن يقرأ فى إحدى الصحف المصرية اسم مدينة سورية أو شخصية سورية وقد كتب خطأ.
وفى إحدى المرات نشرت إحدى المجلات المصرية صورة واسم زعيم كبير من أقطاب الوحدة ومن نواب رئيس وزراء الوحدة أظن أنه «فاخر الكيالى» على أنه «صبرى العسلى» رئيس الوزارة السورية التى حققت الوحدة مع مصر والعكس بالعكس!
وهاج جمال عبدالناصر وماج وهاجم بشدة رؤساء تحرير الصحف والمجلات المصرية الجالسين فى مكاتبهم المكيفة والذين لم يفكر واحد منهم فى أن يذهب فى أى وقت وفى أى مناسبة إلى سوريا، وكان على وشك السفر فى تلك الرحلة إلى سوريا، فأصدر تعليمات حاسمة إلى كل رؤساء التحرير فى مصر بأن يسبقوه فى طائرة حربية إلى اللاذقية التى كان سيذهب إليها فى اليخت «الحرية» عن طريق البحر.
وركبنا الطائرة جميعا وعندما أدرك رؤساء التحرير بأعمارهم المختلفة وأمزجتهم المتباينة هول مشقة السفر إلى مناطق ليس فيها أى تسهيلات بدأوا يتساقطون، عاد مصطفى أمين وإحسان عبدالقدوس من اللاذقية بالطائرة بعد يوم أو يومين، وفى حلب استغاث كامل الشناوى بمن ينقله بالطائرة إلى دمشق، حيث ينتظرنا هناك.
ولم يصمد إلا «محمد حسنين هيكل» و«ناصر الدين النشاشيبى» والمرحوم «مصطفى المستكاوى» وأنا، وفى شقة ليس فيها أى وسائل راحة من حجرة ومدخل، بتنا نحن الصحفيين المصريين «ناصر الدين النشاشيبى» ومصطفى المستكاوى فى الحجرة و«محمد حسنين هيكل» وأنا فى المدخل، وكانت حقا رحلة شاقة!
عرفت «محمد حسنين هيكل» فى تلك الرحلة وتوثقت علاقتى به خلال تلك الظروف وكنا نجد دائما ما نتحدث فيه معا وأينما كنا.. وبعد أن ينتهى كل عذاب اليوم ونأوى إلى فراشنا قبل التحرك مع الصباح الباكر، يأتى رسول من حيث يكون «جمال عبدالناصر» يأخذ هيكل ليسهر بقية الليل معه، وكان بعضنا يتندر على ما يثيره ذلك من حنق وغضب لدى كثيرين رسميين وصحفيين»!
ويواصل الأستاذ أحمد بهاء الدين سرد قصته مع «هيكل» فيقول:
«وقد عرض علىّ «محمد حسنين هيكل» بعد ذلك العمل معه فى الأهرام مرارا، ولكننى كنت أفضل البقاء، حيث أكون، وفى تقديرى أن هذا وثق علاقتنا، فقد كان أسهل وأكثر راحة له أن يكون له صديق شخصى خارج مكان عمله يتحدث معه بحرية، وكانت شماتته فىّ كبيرة عندما ذهبت إلى الأهرام حين قال لى ضاحكا: ألم يكن من الأحسن أن تأتى إلى الأهرام بالذوق لا بالعافية».
عبارة الأستاذ هيكل جرت أحداثها بعد تولى الرئيس السادات حكم مصر فى أكتوبر سنة 1970 بعد وفاة الرئيس عبدالناصر وكان الأستاذ بهاء أيامها رئيسا لمجلس إدارة الهلال ورئيس تحرير مجلة المصور.
ولاحظ بهاء محاولات عدة لاستفزازه وفجأة قرأ بهاء فى الصحف قرارات التغييرات الصحفية ومن بينها نقله من دار الهلال وتعيينه رئيسًا لمؤسسة روزاليوسف ويقول الأستاذ بهاء:
لو كان هذا القرار قد صدر فى ظروف عادية ربما ما كنت أعترض وعلاقة عاطفية خاصة تربطنى بمجلة روزاليوسف ومجلة صباح الخير وأسرتيهما، ولكن القرار بدا لى أنه من منطلق العقاب والاستجابة إلى الوشايات وأحزننى وأدهشنى أن تتراكم الوشايات عند الرئيس «أنور السادات» دون أن يحاول مرة واحدة أن يسألنى مباشرة».
قرأت هذه الأخبار فى صحف الصباح واتصلت على الفور بوزير الإعلام فى ذلك الوقت الدكتور «عبدالقادر حاتم» وذهبت إليه لأقدم له اعتذارى عن قبول المنصب الجديد!».

وفشل د.حاتم فى إقناع بهاء بقبول المنصب واستمر الجدل بينه لساعات وقال بهاء إننى أعفيك من نقل هذه القصة للرئيس وسأكتب أنا إليه بضعة سطور ليس عليك إلا أن تبعث بها إليه، بدأت بإبداء أسفى على أن يحدث ما حدث وأن أقرأه فى الصحف دون علمي! وفى فقرة ما زلت أذكرها بحروفها تقريبًا كتبت: لقد اخترعت الثورة صحفيين وكُتابا ودكاترة فى كل مجال، ولكننى لست أحد اختراعات الثورة، وقد كنت رئيسًا لتحرير أكبر جريدة فى مصر وهى أخبار اليوم وأتقاضى أقصى حد للمرتب قبل تأميم الصحف بسنتين، وقد نقلت إلى دار الهلال منفيًا فى حقيقة الأمر.
وبالتالى فإن من حقى أن يؤخذ رأيى فى أى أمر يتصل بى شخصيًا فلا أقرؤه فى الصحف دون سابق علم ولا أتحرك كقطعة شطرنج من مكان إلى مكان وبلا رغبة».
ويمضى الأستاذ «بهاء» قائلا:
«فى نفس اليوم كان قد اتصل بى مع قراءة الصحف الأستاذ «محمد حسنين هيكل» واتفقت معه على تناول الغداء معا فى كافيتريا جريدة الأهرام وأخذ الأستاذ هيكل بالطبع يستجوبنى عن خلفيات هذا القرار ويبدى دهشته من أنه لم يسمع به ولم يتصوره وما هو السبب فى تقديرى!
ورويت له ما سبق بتفاصيل أكثر وقلت: أعتقد أن البروفات التى كنت أحذف منها وأكتب على هامشها لماذا أحذفها كانت تذهب إلى الرئيس أنور السادات! كما رويت له ما حدث منى فى مكتب الدكتور عبد القادر حاتم من أننى سأستقيل فقط، وهذا ليس إهانة لأحد وأنى سأبحث لنفسى وبمعرفتى عن عمل ككاتب فى الصحيفة التى تقبلني.
سألنى الأستاذ «هيكل» على الفور: طيب هل تقبل أن تعمل فى الأهرام؟
كان الأستاذ «هيكل» يعرض على العمل فى الأهرام من سنوات سابقة وكنت أعتذر فقلت له ضاحكًا: هذه المرة ليس أمامى إلا القبول!!
ولحكاية بهاء وهيكل بقية!