الأربعاء 20 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
عندما تحكمنا الإشعارات

عندما تحكمنا الإشعارات

كأنك صرت شخصًا آخر.



منذ أن فتحت عينيك فى الصباح، أو حتى قبل ذلك، والهاتف لا يتوقف عن الرنين: رسالة، إعجاب، تنبيه، فيديو، إعلان، صورة. كل شىء يريدك، والكل يناديك. لكن من يستجيب لكل هذه النداءات، عقلك أم قلبك أم شىء غريب لا تعرفه؟.

أتذكر شابًا اسمه أحمد.. كان يحب أن يقرأ كل صباح، يشرب قهوته بهدوء، ويفكر فى أعماله. ومنذ أن دخل الهاتف حياته، تغير كل شيء، تحول صباحه كزحام رقمى، وكأن بداخله أكثر من شخص؛ واحد يريد أن يشاهد فيديو مضحكًا، وآخر يطالب بإنهاء رسائل البريد، وثالث يهمس: «كم إعجابًا حصل عليه منشورك».

وهكذا، أصبح أحمد -ومعه كثيرون- يعيش داخل ما يشبه لجنة قرارات... فيها ثلاثة أصوات، عقل يفكر بهدوء، وقلب يغلى بالمشاعر، وصوت ثالث، هو الأكثر حضورًا؛ تلك «الشخصية الاجتماعية» التى تريد دائمًا أن تبدو مثالية، محبوبة، ومقبولة، حتى لو تخلت عن حقيقتها.

كان أحمد يعتمد على عقله، لكن مع مرور الوقت، بدأ يشعر بأن قراراته لم تعد منطقية، اشترى أشياء لا يحتاجها، وشاهد ساعات من الفيديوهات بلا سبب، أصبح مشوشًا، وكأن هناك من يتحكم فيه.

العلماء يقولون إن الدماغ فيه منطقتان، إحداهما تفكر بهدوء وتحلل، والأخرى سريعة، تتأثر وتنفعل وتندفع. وفى عالم الإنترنت السريع، تعمل الثانية أكثر. وهكذا، ضعف صوت العقل، وأصبح صوت الرغبة والمشاعر هو الأعلى.

عندما يصلك إشعار يخبرك أن «أحدهم أعجب بمنشورك»، تشعر بشىء من الفرح، وهذا طبيعى، فكل إنسان يحب أن يتقبله الآخرون.. لكن ماذا لو أصبح هذا الإعجاب هو مصدر سعادتك الوحيد.

عندها، يصبح يومك كله مرتبطًا برأى الناس، تمامًا مثل أحمد. كلمة سلبية واحدة قد تفسد يومه، وصورة جيدة واحدة قد تجعله يطير من الفرحة.. الناس فى عالم الإنترنت أو السوشيال ميديا، لا يعيشون بشخصيتهم الحقيقية، يعيشون بعيون الآخرين، فيشكلون أنفسهم لينالوا إعجاب المتابعين.

والأخطر، أن «الشخصية الاجتماعية» فى داخل أحمد صارت تتحكم فى كل شىء، والمنصات الرقمية جعلتها قوية جدًا؛ «تويتر» جعلها تبحث عن الرأى الذى يعجب الناس، و«تيك توك» جعلها تقلد الآخرين بدلًا من أن تبدع، و«لينكد إن» جعلها ترتدى ملابس رسمية، حتى لو كانت تجلس بالبيجامة فى البيت.

مع الوقت، أصبح كل شىء مرهقًا. حتى القرارات الصغيرة مثل، هل أرد الآن؟ هل أغير صورتي؟ هل أشارك هذا المنشور؟.

هنا، يبرز ما يسميه العلماء بـ «إرهاق اتخاذ القرار»..عندما تضطر كل يوم لاتخاذ عشرات القرارات التافهة، فهذا يرهق عقلك ويبدأ بالانسحاب، وعندها تقودك الخوارزميات، التى لا ترى فيك إنسانًا، بل مجرد مستخدم يتم استهلاكه. 

سألنى أحمد مرة: «هل يمكننى أن أعود كما كنت، أن أكون أنا من يقرر، لا قلبى، ولا رأى الناس، ولا إشعارات الهاتف؟».

قلت له: «قد لا تستطيع أن تطرد كل هذه الأصوات. لكن تستطيع أن تكون أنت من يجلس على رأس الطاولة. اسمعهم، لكن لا تطعهم دائمًا. اصمت قليلًا. اخرج دون هاتفك. امش وفكر. ارجع إلى إنسانيتك التى لم تصنع فى شركات التكنولوجيا».

عمومًا، الأمر ليس فقط ما نختاره، لكن من منا يختار.. هل أنا من قرر أن يفتح هاتفه الآن؟ أم أن شيئًا بداخلى، لا أعرفه، هو من قرر أن يضغط على الزر؟.

فى هذا العصر، الحرية ليست أن تختار، بل أن تفهم: من هو الذى اختار بداخلك؟.