د. رانيا يحيي
الفن والثقافة على نهر السين
للاحتفالات الكبرى بهاء خاص، ورونق منمق يجذب الأنظار من المتابعين حضوريًا من داخل الحدث، أو خارجه فى عالمنا الذى بات صغيرًا حين تقاربنا من خلال الأقمار الصناعية ومواقع التواصل الاجتماعى التى جعلتنا نتجاذب أطراف الحديث عبر منصات متباينة فى ذات اللحظة، للمهتمين بالأحداث والفعاليات الثقافية والفنية والرياضية المهمة.
وكما شاهدنا ولفتنا أنظار العالم حول حدث تاريخى مهيب نظمته الدولة المصرية ببراعة واقتدار للاحتفال بموكب نقل المومياوات الملكية الذى أذهل العالم تأمينًا وتحضرًا وفنًا مصريًا خالصًا معبرًا عن هويتنا الحضارية التى تضرب فى عمق التاريخ، ما كان لهذا الحدث الثقافى والتاريخى أثره الكبير للشعور بالفخر لكل المصريين فى مصر وخارجها، واستطاعت الدولة المصرية العريقة أن تستحوذ على تصدرها لوكالات الأنباء العالمية بما سطرته فى هذه اللحظة التاريخية من تقدير لتاريخ عظيم لملوك مصر وما قدموه عبر مراحل زمنية تمثل تاريخًا مشرفًا، مؤكدين أن المصريين لديهم القدرة على صناعة الحاضر والمستقبل كما صنعوا الماضى العتيد.
ولأن الجمال أينما كان نقف أمامه صاغرين ومنساقين لنلج بين جنباته فى متعة بصرية وسمعية، فنجد باريس عاصمة النور تقدم احتفالًا ثقافيًا مبهرًا بأدواتها الحضارية وفنونها الجمالية ومعالمها السياحية، حيث تستقطب روادها من العالم أجمع، لتتوحد الإنسانية حول الجمال الذى يتجاوز العرق واللون والجنس، فتتناغم الأفئدة حين يتعانق الفن بالتاريخ، وتتهادى أجسادنا المنهكة بإيقاعات الموسيقى الساحرة لنتجاذب مع السبع نغمات، فتتدفق مشاعرنا، وينبض وجداننا، بتلك اللغة العابرة للمسافات، لنحدق بجمال حسى يتعالى فوق العقول مخاطبًا القلوب الرقراقة فى تلك البقعة ذات الإشعاع الثقافى الممتد الأثر، فتصدح معلنة عن الثوابت الراسخة المتمثلة فى ديمومة الفن بجمالياته واختراقه للحواجز ليظل هو السبيل. وها نحن نتهادى على ضفتى نهر السين العظيم فى مشاهدة ذاك الاحتفال الأسطورى غير التقليدى لحفل الأولمبياد 2024 بأسطول الزوارق التى تحمل الرياضيين من جميع الجنسيات على طول النهر، مع بعض المعالم الأثرية وبإطلالة فاتنة على برج إيفل وكاتدرائية نوتردام مصاحبة بعروض فنية غنائية تلفت الأنظار.
استمتعنا بهذا الحدث كما استمتعنا من قبل بتراثنا الحضارى الرصين، فى الاحتفال الأسطورى الذى أثبت أننا حين نرغب، وتتوافر النية الخالصة، نستطيع كمؤسسات وأفراد مبدعين، أن نرفع راية النجاح، كما فاضت علينا فى موكب المومياوات ألحان هشام نزيه بجمله الموسيقية حاملة جينات أجدادنا المصريين القدماء، تاركًا بصمة متفردة، وباتت تلك الموسيقى اللحنية أيقونة لحدث جلل نادر الحدوث.
وسواء هذا الحدث المصرى أو الفرنسى، فكلاهما يؤكد الاهتمام بالفنون والثقافة، وتقدير هذا الدور الذى تلعبه الموسيقى فى التأثير النفسى، وكذلك ما تمثله الحضارة من قيمة يدركها ويعيها من يمتلك الوعى الحقيقى، فليس هناك أرفع من الغوص فى بحر الثقافة والحضارة للأمم، وحين تتمازج فى بوتقة الماضى لصناعة الحاضر، تتضافر القوى البشرية ما بين الروح الآنية، بجانب ما تركه الأجداد من عمق راسخ فى الشخصية بتاريخ حافل، لخلق أجيال حاملة شعلة التألق والتأنق بالهوية الثقافية التى رغم كبواتها من حين لآخر لكن إشراقة شمسها لن تغيب.