
عاطف كامل
الناس جرالها إيه 2
لا تُدينوا لكى لا تُدانوا
فى مصر، لا يحتاج الإنسان إلى دليل جنائى لإدانة غيره، يكفى أن تنتشر قصة حقيقية أو مزيفة - حتى تبدأ المحاكمات فى صالونات البيوت وعلى مقاهى الحارات وصفحات الإنترنت.
منذ أسابيع، اجتاحت مواقع التواصل خبر «طلاق إعلامية شهيرة من فنان راحل». الحدث قديم، والانفصال كان قبل الوفاة بسنوات، لكن المجتمع عاد ليفتح الدفاتر، ويتساءل: «ليه؟ وإمتى؟ وإزاى؟»، وكأن الحياة الزوجية رواية عامة يحق للجميع قراءتها والتعليق عليها.
بعده، شغلت الناس قضية حفيد اتُّهم بسرقة جدته. لم يسأل أحد عن حال الجدة ولا عن طبيعة العلاقة داخل الأسرة، بل تحوّل الحدث إلى فضيحة أخلاقية، ومعركة افتراضية بين مؤيدين ومعارضين، بينما الألم الحقيقى يضيع وسط عناوين الصدمة.
وهناك أيضًا قضية الطلاق المتكرر لبعض الفنانات أو ظهور إحدى الممثلات بملابس لا ترضى «ذوق المجتمع»، فتبدأ المعارك: هل هى ضحية أم مذنبة؟ هل كانت تبحث عن الشهرة أم الحب؟ كل شىء مباح.. سوى الصمت.
لكن، من نحن حتى نحكم؟
ألسنا نحن من نرتكب أخطاء فى بيوتنا، ونتمنى لو أن أحدًا ستر علينا؟ ألسنا نحن من نعرف جيدًا كم الحياة معقّدة، وكم القلوب هشة، والقرارات صعبة؟
حين قال السيد المسيح: «لا تدينوا لكى لا تُدانوا»، لم يكن يقصد فقط الأحكام القضائية، بل كان يحذّرنا من أن نصبح أسرى للادّعاء، ومهووسين بتفتيش عيوب الآخرين بدل مواجهة عيوبنا.
المؤلم أن النميمة لم تعد همسًا فى الزوايا، بل أصبحت علنًا، وبثًّا مباشرًا، ومحتوى رقميًّا. هناك من يصوّر، ومن يعلّق، ومن «يحلل نفسيًا»، وكأن الحياة الخاصة للناس أصبحت مادة للترفيه.
إننا نعيش فى زمن تآكل فيه جدار الخصوصية، وتحوّل كل ما هو شخصى إلى ملكية عامة، تُنتهك باسم الفضول أو «الحق فى المعرفة». لكن لا أحد يتساءل: ما الذى نكسبه من كل هذا الانغماس فى حياة الآخرين؟ هل أصبحنا أكثر سعادة؟ أكثر نقاءً؟ أم أننا فقط نحاول أن نُلهى أنفسنا عن مشاكلنا الحقيقية؟
ما نحتاجه ليس قانونًا جديدًا فقط يحمى الخصوصية، بل وعيًا جديدًا يعيد للمجتمع إنسانيته. نحتاج أن نربى أبناءنا على احترام الاختلاف، وعدم التسرع فى الحكم، وأن نُعلّمهم أن كل إنسان له قصة، وله جرح، وله وجه لا يظهر فى الصور أو العناوين.
دعونا نعيد الاعتبار للصمت، وللستر، وللرحمة.
دعونا نكفّ عن اللهاث وراء الحكايات الصغيرة، ونلتفت إلى قضايانا الكبرى: تعليم، وصحة، وأخلاق، وكرامة إنسانية.
الإنسان الحقيقى لا يفرح بفشل غيره، ولا يُدين من لا يعرف قصته.
دعونا نتعلّم الاستئذان قبل الدخول إلى حياة الناس، وأن نغلق آذاننا عن الإشاعة، وأفواهنا عن الإدانة، وقلوبنا عن القسوة.
لأننا يومًا ما.. سنُدان بنفس المكيال.