الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

نصر الدين طاهر.. حلم تحقق فى جزيرة الشاى!

أهدى رسام الكاريكاتير الفنان سمير عبدالغني، إلى مجلة «صباح الخير» حلقاته المميزة عن جيل الأساتذة من رسامى الكاريكاتير، قبل أن يجمعها فى كتاب يوثق خلاله رحلة هؤلاء مع أحد أهم فنون الصحافة من خلال حكايات وذكريات، عاشها معهم، وصاحبهم خلالها على مدار سنوات عديدة، حرص على توثيقها لتقديمها إلى محبى فن الضحكة والبسمة، وللأجيال الجديدة التى لم يسعدها الحظ أن تتابع رسومات هؤلاء الفنانين فى زمانهم.



اتصلت بى الكاتبة المبدعة زينب الكردى زوجة أستاذى الفنان الراحل حسن حاكم، على تليفون المنزل الأرضى (لم يكن معى محمول) وقالت عايزاك ضرورى.. ذهبت إلى منزلها بالمهندسين، كانت ترتدى ملابس الخروج وقبل أن أجلس قالت إحنا رايحين بيت عمّك نصر.. (عنده سرطان) الموضوع ده سر..  هو ميحبش حد يعرفه وإحنا رايحين نشوفه.

 

هناك قابلنا الفنان الكبير بترحاب.. هو صديق عمّنا «حاكم» من قبل السفر للكويت كان يعمل معه فى جريدة الجمهورية وكانت معهم زينب الكردى.. «نصر» من النوبة و«حسن» سودانى.. وبينهما أشياء كثيرة مشتركة غير حبهما للفن وعملهما معًا فى مجلة العربى الكويتية.. «حاكم» رسام و«نصر» مخرج فنّى ورسام أيضًا.. لم أتحدث فى موضوع المرض وكان هناك ضيوف آخرون.

 

 

 

واكتشفت أن الفنان نصر الذى لا يحب أن يعرف أحد شيئًا عن مرضه يحكى للجميع ويخبرهم ألا يخبروا أحدًا.. قالت «زينب» ضاحكة.. ما نجيب لك ميكرفون يا نصر.. منين مش عايز حد يعرف وانت بنفسك بتقول!.. رد ضاحكًا «من غلبى يا زينب.. الدكاترة بيحاولوا يقضوا على المرض شالوا حتة من البنكرياس وحتة من المعدة وحتتين من الأمعاء.. أنا بقيت حتت يا زينب».. لا أعرف من أين جاءتنى الشجاعة أسأله وأنت بتعمل إيه دلوقت ؟.. أجاب وهو ينظر لزينب.. «أنا بنيت التربة حاجة كده ترد الروح!».. انتظر أننا نضحك ولكن لم نستطع.

نظرت إليه «زينب» ثم وضعت يدها على كتفى وقالت الواد سمير ده تلميذ حسن حاكم.. وأنا جيباه علشان يكون معاك اعتبره دراعك اليمين.. نظر إليها وقال أنا دراعى سليم.. ونظر للعكاز الذى كان فى يديه وقال رجلى هى اللى بتوجعنى.. ضحكت وهى تقول.. اعتبره رجلك اليمين.. ضحك الجميع ولم يصدق الزوار الذين كانوا يجلسون قبلنا كيف استطاعت زينب الكردى الكاتبة الساخرة أن تضحك هذا الرجل المريض.

ابتسم وقال: قبل ما أموت كان نفسى النقاد فى مصر يعرفوا أنا عملت إيه ويشوفوا شغلى.. والحقيقة غيابى عن مصر أثر فى عدم وجود علاقات بينى وبين أى حد منهم.. لمعت فى رأسى فكرة.. وقلت أنا عندى استعداد أساعدك يا أستاذ؛ بشرط.. نظرت لى زينب شذرًا وقالت أنت جاى تتشرّط على عمّك نصر.. ابتسم وقال.. نسمعه للآخر يا زينب.

قلت أى كلام الناس مش هتصدقه ولا حد هيهتم لو إحنا عملنا حوار فى جريدة العربى أو القاهرة (حيث كنت أعمل).. أنا شايف أنك تعمل معرض كبير.. الناس تشوف وتحكم بنفسها.. كان يجلس معنا الفنان إبراهيم حنيطر والصحفية سهير الإمام فقالت.. أنا عندى علاقة بمديرة القاعات فى الأوبرا.. ممكن أروح ومعايا سمير والأستاذ حنيطر نحجز القاعة.. أبدى الفنان إبراهيم حنيطر استعداده لعمل أى شىء لإسعاد عم نصر..  فى نهاية السهرة ونحن على الباب.. سلم علىّ بحرارة وقال اتفقنا يا حَبُّوب.. كل يومين زيارة.. تشوفنى بعمل إيه.

عند زيارة نصر الدين للطبيب نظر للتحاليل والأشعة وقال.. أنت يا نصر بتاخد علاج غير اللى أنا بكتبه؟.. أجاب لأ.. طيب أنت بتعمل إيه دلوقت؟.. أجاب «نصر» بجهز لآخر معرض.. ابتسم الدكتور وقال.. مناعتك زادت وقدرتك على مواجهة المرض أكبر.. أرجوك لا تتوقف عن الرسم.. ابتسم نصر وخرج من عيادة الطبيب وهو يكاد أن يطير من على الأرض.

فى افتتاح المعرض وكان بعنوان (اندو ماندو) كنا نوزع السودانى والكركديه والدوم والفشار فى أسبتة صُنعت فى النوبة وكانت هناك فرقة نوبية تغنى فى ساحة الأوبرا.. ونصر الدين الذى كان يتحرك بعصا ولا يقدر على الوقوف خمس دقائق.. كان يلف قاعة العرض مع الجمهور لأكثر من ساعتين.. . مصر كلها كانت فى القاعة.. شاهد المَعرض كل الأساتذة الكبار والنقاد العظام وكان وزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى فى زيارة لقصر الفنون فمَسَك فى يديه الفنان طه حسين رسام الكاريكاتير وقال له مش ممكن تمشى من غير ماتشوف معرض طاهر.. وبالفعل شاهد المعرض ومعه كل موظفى صندوق التنمية الثقافية. 

قال حسنى لنصر شغلك ده جميل وقدرتك على استخدام ألوان الزيت غاية فى البراعة.. أنت بتتعامل مع السطح بأستاذية.. ابتسم نصر الدين وهو يقول له.. أن اللوحات التى أمامه (كولاچ) مصنوعة من قصاصات الورق (نانو قصاصات الورق) كان يستخدم المُلقاط لكى يمسكها.. وعندما سأله الوزير عن السبب أجاب نصر.. عندى سرطان والدكاترة قالوا أن سببه المواد الكيماوية اللى موجودة فى ألوان الزيت ودى بتيجى لواحد فى المليون.. أنا الواحد ده..  وكان لازم ألاقى بديل.

أقام نصر الدين بعد ذلك معرضًا فى الإسكندرية ومعرضًا فى الكويت.. وهو عائد اشترى لى أول موبايل فى حياتى، وعندما قلت له لا أحب أن أتحدث مع أحد فى الموبايل فقال أنا جايبه علشان تكلم واحد بس (ثم أشار إلى نفسه) أنا.

تعددت المَعارض وعاش عم نصر سبع سنوات يواجه المرض.. يقول إنها أجمل سنواته الفنية.. «لولا المرض ما كنت عدت إلى القاهرة ولا أصبحت معروفًا وسط أبناء وطنى».

يحكى لى (أنا سألت مرّة مراتى وإحنا فى الكويت عايزين نسمع مزيكا هو فين الكاسيت الجديد اللى إحنا اشتريناه؟.. أشارت إلى أعلى وقالت فوق الدولاب.. نظرت فوق الدولاب وجدت.. مروحة وتليفزيون وكاسيت وأدوات مطبخ.. دنيا تانية.. صرخت وصعدت إلى أعلى وألقيت بكل شىء وقلت لها.. إحنا لازم نعيش.. حياتنا بقت فى الكويت وشكلنا مش راجعين مصر.. إحنا مكتوب لنا نعيش هنا ونموت هنا).

ويروى: رجعت لى حياتى الضايعة وأنا برسم لوحات لمعرضى الجديد.. كل لوحة حياة.. ورسالة.. وكلمة مَحبة لكل عشاق الإبداع وأهلى فى النوبة.. أنا واجهت أوجاعى بالفن.. وعمرى ما كنت أصدق أن الفن ممكن يدّينى كل القوة دى.

 

 

 

 

«نصر» طفل نوبى يرقص فى الأفراح ويغنى ويُعتبر واحدًا من أجمل شباب النوبة، ومشهور وسط أصدقائه أنه رسام شاطر.. بعد قيام ثورة يوليو زارالرئيس محمد نجيب النوبة فرسمه نصر الدين وأهداه البورتريه.. أعجب به محمد نجيب وأعطى نصر كارتًا وقال له «انجح فى الثانوية ولمّا تنزل القاهرة الكارت ده هيفتح لك كل الأبواب». 

عندما نجح نصر الدين ونزل للقاهرة.. وكان يريد أن يعمل إلى جوار الدراسة قدّم الكارت فى إحدى المَصالح الحكومية.. تم القبض عليه وكاد أن يدخل السجن.. لم يكن يدرى أن محمد نجيب قُبض عليه وأن هناك رئيسًا جديدًا اسمه عبدالناصر.

تقدم نصر الدين فى بطولة الجمهورية للسباحة يمثل شباب النوبة.. ورغم تفوقه فى رياضة السباحة فإنهم رفضوا اشتراكه إلا إذا كان يرتدى مايوه بينما هو كان يرتدى شورت أبيض جميل يصل للركبة ورفض أن يرتدى المايوه الذى سوف يكشف جزءًا كبيرًا من قدمه.. ورغم الضغوط كان الرفض أشد.

يقول: وقف المتسابقون ينتظرون طلقة البداية وقفزت كالسهم فى المياه.. وسمع الجميع صوت انفجار.. امتلأ الشورت بالمياه وأصبح يشبه عوامة ثم انفجر.. خلعته ووضعته فى فمى وسبقت الجميع إلا أننى لم أعرف كيف أخرج من الماء، وانتظرت ساعة بعد السباق ليأتوا لى ببشكير أستر نفسى.. كان يضحك وهو يقول مقولة عبد المنعم مدبولى فى مسرحية ريا وسكينة (كل شىء انكشف وبان).

يقول نصر الدين عملت مخرجًا فنيًا بمجلة العربى وكنت برسم بعض الموضوعات ورغم معرفتهم بقدراتى فإنهم عندما قرروا تطوير شكل المجلة قرروا يعملوا مسابقة للمخرجين الأجانب.. وأنا كنوبى مصرى زعلت وحسيت بالإهانة.. المهم عملت تصميم وسميت نفسى اسم خواجاتى كده (ألبرتو ألبرتو) وعلشان أسبك الموضوع أصريت إنى أقدم أنا كمان تصميم للماكيت الجديد (أى كلام طبعًا) وبعد إلحاح وافقوا وأرسلت الماكيت بالبريد السريع..  وبعد أسبوعين ظهرت النتيجة فاز تصميم (ألبرتو ألبرتو) الفنان العالمى.. وسمعت فى المجلة قصايد شعر فى إبداع أخوكم ألبرتو اللى هُوَّا أنا.. وسيبتهم أسبوع كامل ينتظروا الخواجة ألبرتو.. ويوم الاجتماع.. أعلنت أنى أنا ألبرتو المصرى.. معندكش فكرة كنت حاسس قد إيه بالسعادة والفخر.. انتصرت لكل مبدع مصرى.

نصر الدين كان أحد ظرفاء مصر وحكاءً عبقريًا لا تمل حديثه وكأى راوٍ يستطيع أن يحكى حكايته بأكثر من طريقة.. نبرة صوته حركة إيديه وجسمه.. كان قادرًا على أن يجذبنا إليه أطول وقت.

فيللته كانت بالمريوطية مكونة من ثلاثة أدوار فقرر أن يقوم بتأجير الدور الأرضى.. استوديو صوت للملحن محمد رحيم.. وكان معجبًا بألحانه.

يحكى لى أنه فى إحدى المرات كان يجلس أمام الباب وجاءت عربة كبيرة.. نزلت منها فتاة جميلة عرف فيما بعد أنها المطربة إليسا وكانت تنتظر رحيم فجئت لها بكرسى وعملت لها شاى وكنت مبسوط وأنا أحكى لها عن حياة الناس فى النوبة القديمة وأغانى النوبيين.. كنت سعيدًا بالحوار معها.. وكانت تضحك ضحكة حلوة.. المهم بعدما جاء رحيم استأذنت وقالت له.. أنا مشفتش بواب بالظرف ده.. وعندما قال لها رحيم أننى صاحب الفيللا وأننى فنان كبير.. كانت تريد أن تنشق الأرض وتبلعها!

عندما سألته أنت زعلت.. أجاب ضاحكًا: لأ طبعًا.. دا أنت رفضت تمشى قبل ما تغنيلى لوحدى.. ويضحك نصر الضحكة التى كانت قادرة على مواجهة أى مرض والانتصار عليه.

ونحن عائدون من دار الأوبرا استعدادًا لمعرض جديد.. كنا نركب سيارة أحد الأصدقاء طلب منه أن يذهب إلى حديقة الحيوان.. وجلسنا فى جزيرة الشاى.. ورغم أنه ممنوع من أكل الحلويات.. طلب لنفسه قطعة. 

سألته إيه اللى جابك هنا يا أستاذنا؟.. أجاب.. لمّا جيت من النوبة يا حَبُّوب.. كنت بشتغل هنا فى جزيرة الشاى.. وكنت بقدم الطلبات للبهوات.. وكانت أمنية حياتى أن أجلس ويقدم لى الجرسون قطعة جاتوه.

كان يأكل وينظر للوز فى البحيرة.. ويبتسم «اليوم بحقق أحلامى بعد 50 سنة».

بعض الناس ليسوا بشرًا عاديين، إنهم الدرس الذى يجب أن نتعلمه من الحياة.. هذا النوبى البسيط الذى نجح كمخرج فنى ورسام وإنسان، وُلد سنة 1935 وتوفى 2007.. وملأ الدنيا فنًا وأسعد الناس.

يرسم نصر الدين النوبة وناسها وتفاصيل الحياة.. البيوت وعليها الموتيفات النوبية.. تفاصيل الحياة.. أفراحهم وأحزانهم.. الآثار وتاريخ من الإشعاع البصرى والحضور الفنى الذى يستلهم منه نصر عالمه؛ حيث ساهم فى نقل النقوش الفرعونية لمعبدى أبوسمبل مع الدكتور أحمد عثمان عميد فنون الإسكندرية.. كان مولعًا بالنهر وناس النهر..  يرسم المَراكب وكأنها جزء من تاريخ محفور داخله..  يرسم الناس ويعرف أساميهم وتاريخ ميلادهم.. كان يقول «أنا لا أرسم النوبة.. أنا أتنفسها»..  يعشق الظل والنور وكل لوحة هى رسالة مَحبة.. كان يرسم وكأنه يلعب.. وعندما كنت أسأله تجلس كثيرًا وأنت تقوم بالبحث عن بقعة اللون وسط ملايين القصاصات الصغيرة ألا تشعر بالتعب أو المَلل؟.. كان يجيب إن الفن حياتى.. والنوبى يمتلك من الحكمة والصبر ما يجعله راضيًا مَهما كانت صعوبة العمل الذى يقوم به.. لم يكن يخجل وهو يقول ساخرًا لو لم يكن لدى إصرار على النجاح ما كنت أجلس الآن أمام باب فيللتى.. كنت سوف أجلس أمام فيللا الآخرين وأعمل بوابًا.. وكان يضحك ضحكة المنتصر ثم يعود وجهه رائقًا كصفحة مياه النيل وكأنه طفل صغير سمع الحكايات التى تعجبه وفى طريقه للنوم ملء جفونه.. يحلم بالأميرة التى تركب عربة الخيول.. وينتظرها وهو ممسك وردة ولوحة فيها كل إبداعه هدية لها.