الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مرتـب رئيـس التحريـر

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

لا أحب التنظير فى الكتابة الصحفية، فالبساطة والصدق والموضوعية تدخل القلب والعقل معا.  أقول هذا لمن يسألنى: ما هى استراتيجيتك فى عملك الصحفى؟ 

وأرد عليه بأن الفنان يبدع والناقد يحلّل ويفلسف ويستكشف وينتقد ويغبط عمل الفنان، والصحفى فنان، فشرح استراتيجيتى ليس مهمتى، مهمتى هى العمل وفق استراتيجية، لا أعرفها بقدر ما أعيشها.

 

فى وجدانى كما فى عقيدتى أن الصحافة مهنة رسولية، ليست مهنة أكل عيش ولاهى مهنة وجاهة اجتماعية ولا تسلل إلى الأوساط والسلطات العليا لتحقيق أغراض شخصية انتهازية، كما يميل إلى ذلك عديد ممن عايشناهم ومروا علينا والفرقعة المخالفة للحقيقة هى جريمة ترتكب كل يوم باسم الصحافة والصحافة منها براء.

وقديما رددوا مما أبدعه أحمد شوقى: لكل زمان مضى آيته/ وآية هذا الزمان الصحاف/ انتصار الصحافة الوطنية.

وأذكر أن موقفا حاسما عبر عن احتدام صراع السلطة مع سلطة الصحافة تمثل فى اجتماع عقده السادات لبعض قيادات دار «روزاليوسف» وشبابها، وكان قد استشاط غضبا من موقف صحف الدار المؤيد لمطالب الشعب التى عبرت عنها انتفاضة الخبز الشهيرة فى 17 و18 يناير 1977.

وكان السادات يصفها بـ«انتفاضة الحرامية».. وأراد أن يملى إرادته علينا بالقول إن الصحافة يجب أن تكون مع الرئيس فتصدى له صلاح حافظ، موضحا أن الرئيس سلطة مسئولة أمام الشعب، والصحافة سلطة مستقلة مسئولة أيضا أمام الشعب، وكلاهما يجب أن يكون فى خدمة مصالح الوطن، فنحن لسنا فى خدمة الرئيس أو الحكومة، نحن نخدم مصر.

 

 

 

ولعله مشهد تاريخى هذا الذى وقع فى أجواء كان السادات قد استجاب فيها لمطالب الشعب مكرها، وسحب كل قرارات رفع أسعار السلع الأساسية. وكان يهدد فى الاجتماع بتحويل مؤسسة «روزاليوسف» إلى مجرد مطابع لكتب وزارة التربية والتعليم، وإغلاق المجلتين «روزاليوسف» و«صباح الخير».

لكنه تراجع عن هذا، وانتصرت عليه سلطة الصحافة الحرة المعبرة عن الضمير الوطنى.

وعندما أتذكّرهذه الواقعة التى جرت فى سنة 1977 وكنت وقتها سكرتير تحرير «صباح الخير» أستعيد وقائع أخرى نعرفها جرت فى نهايات الأربعينيات من القرن الماضى عندما كان الضابط الشاب أنور السادات يعتمد على معاونة ورعاية الصحفى الشاب إحسان عبدالقدوس رئيس تحرير «روزاليوسف» فى إعادة صياغة ونشر ما يكتبه هذا الضابط من مقالات ضد فساد الأوضاع وقتها. 

فهل أجبت على سؤال الاستراتيجية الصعب الذى بدأت به هذا الحديث؟

«صباح الخير» ليست صدفة

وأضيف أن اختيارى للعمل فى «صباح الخير» لم يكن محض صدفة نتيجة تعرّفى وأنا تلميذ ثانوى على فتحى غانم، أو تعرّفه علىّ «واكتشافه لى» ولا هو مرتبط بمصادفة أن أستاذى عبدالسلام الشريف قدّمنى لتلميذه حسن فؤاد، أحد آباء «صباح الخير» الأوائل، ومصمم هيئتها وشكلها وتبويبها، ولونها الصحفى المتميز جنبا إلى جنب مع أحمد بهاء الدين أصغر رئيس تحريرعرفته مصر.

كانت هناك أسباب لا مجال للصدفة فيها، تلاقت أفكارى ومشاعرى مع منهج «صباح الخير» ونظرتها للحياة والفن والصحافة، وحبها لحياة البسطاء، وتطلعها الدائم للنهوض بهذا الوطن فى كل المجالات ورعايتها للأفكار الشابة والمواهب الجديدة. وروح الابتكار والتجديد، وبعدها عن المباشرة فيما يتعلق بالسياسة، وحمايتها للفكر التقدمى ودعوتها للفن من أجل الحياة وقناعتها بدور مصر ومسئوليتها العربية وإيمانها بالحرية والعدالة والكرامة لكل مواطن.. كل هذا أوقعنى فى غرام الصبوحة وجعلنى أشعر بأننى جندى فى كتيبتها الرائعة. أعمل عند مصر وليس عند أى جهة أخرى، أو أى شخص.

ولعلنى أتذّكر الآن حكايات رفضى للعمل فى أى بلد عربى، وأشهرها حكايتى مع صاحب ورئيس تحرير مجلة «صدى الأسبوع» البحرينية على سيار، جاء الرجل فى زيارته الدورية لمصر والتقى أصدقاءه من كبار الصحفيين، ومنهم إحسان عبدالقدوس وحسن فؤاد، وزار «صباح الخير» وعبر عن إعجابه بالانضباط الملحوظ فى عملية إعداد وإصدار المجلة والدقة الشديدة فى كل تفاصيل العملية، فأبلغه عم حسن أن وراء هذا سكرتير تحرير شاب أسمه منير مطاوع، فسأله على السيار، إن كان من الممكن أن يسمح له بالفوز بسكرتير التحرير هذا، ليستعين به فى تحسين أحوال مجلته فى مهمة قد تستغرق عاما أو عامين، فقال له حسن فؤاد إن هذا يرجع لمنير.

لكننى لم أحضر هذا النهار فأعلمه عم حسن أنه سيدبر له لقاء معى.

وظيفتان فى وقت واحد 

لم أحضر يومها إلا فى الليل، فمهمتى كانت الجمع بين وظيفتين فى وقت واحد كان يقوم بهما من قبلى منير عامر ومحمد قناوى، والوظيفتان هما سكرتير التحرير النهارى مع الكتّاب والمقالات ومراجعتها وإعدادها للمطبعة بعد وضعها على خريطة العدد بإشراف رئيس التحرير. والوظيفة الثانية: هى سكرتير التحرير الليلى، الذى يتابع تنفيذ العملية التقنية فى المطابع، ومعنى هذا أننى أظهر فى المجلة صباحا، ثم أختفى لأعود فى الليل.

 

 

 

وطلب على سيار أن يبلغونى برغبته فى استقبالى فى جناحه الخاص فى فندق هيلتون. ومضى.

وعندما ظهرت كان عمنا حسن فؤاد يهتف: يعنى الأموال بالملايين بتجرى وراك وإنت ولا هامك؟!

وعندما أوضحت له أننى لا أجرى وراء المال، اندهش أستاذى من هذا الموقف لكنه فيما يبدو كان مسرورا به، وقال: أنت حر، لكن من باب اللياقة وحتى نكون قد وفينا بوعدنا للرجل وهو كاتب وصحفى محترم وقدير، أرجو منك أن تزوره وتشرح له وجهة نظرك هذه.

وكان، ذهبت والتقيت به فى الطابق العلوى من الهيلتون فى جناح كبير يسكنه وحده، وجرت بيننا محاورة طويلة استمرت حتى مشارف الصباح، قلت له إن فى جيبى قروشا قليلة لكننى لا أتطلع إلى المال الكثير، وأسعد بحياتى فى القاهرة وأستمتع بنهر النيل وبالرفاق وندوة نجيب محفوظ فى ريش، وهذه أمور لا يوفرها المال. قال لى إنه يحسدنى على نظرتى هذه وعلى تمسكى بالعمل الصحفى الحر فى بلدى وأنه يتمنى أن يتاح له الوقت ليعيش هنا فى القاهرة يسعد بالنيل والرفاق وندوة نجيب محفوظ.. وأنه أراد أن يستفيد منى فى إدارة مجلته حتى يستمتع هو بكل هذا!

انتهى اللقاء بأن سلّمنى شيكا على بياض عليه توقيعه ورسالة إلى السفير البحرينى فى القاهرة وتذكرة سفر ورقم هاتفه، قائلا إنه يتمنى أن أغيّر أفكارى المتشددة هذه وأحضر إلى المنامة فى أى وقت. وعندما وجد منى إصرارا على موقفى، جاء طلبه الأخير: هل يمكنك إذن أن تساعدنى وترشح لى صحفيا شابا يقوم بالمهمة؟!

ورشحت له فعلا أحد الزملاء فى مجلة «روزاليوسف». وعندما التقيت الصديقين أمل دنقل ويحيى الطاهرعبدالله، ورويت لهما ما جرى، سبّنى أمل، ثم قال: «أنت مش وش نعمة»!.. مرددا: ليتنى كنت مكانك لقبلت على الفور. أما يحيى فأعجب بموقفى بشدة.

لكن الزميل إياه الذى رشحته عاد من البحرين بعد فترة وجيزة دون إكمال المهمة، حيث قامت السلطات هناك بترحيله على أول طائرة بشكل مفاجئ وفورى، وعلمنا بعد ذلك أنه وقع فى غلطة كبرى سببها رعونته وعدم كياسته، فقد وضع على غلاف المجلة عنوانا لموضوع داخلى عن حرية المرأة فيه معارضة واستنكار لنص قرآنى صريح، العنوان هو «الرجال ليسوا قوامين على النساء».

أساليب خاصة لزيادة الدخل

وحتى لا يختلط الأمر على أحد، فقد كانت لى أساليب خاصة لزيادة دخلى بما يتناسب مع احتياجاتى وأيضا بما يليق بمظهرى العام واهتماماتى كقارئ وفأر كتب، وعاشق لفنون السينما والمسرح، كان ذلك من خلال إعداد موضوعات وتحقيقات وأحاديث ومراجعات لكتب ونشرها فى صحف خليجية مثل «القبس» و«الوطن» وغيرهما.

وأذكر من ذلك حكايتين: الأولى كانت عندما صدرت رواية صديقى صبرى موسى، المدهشة «فساد الأمكنة» فى كتاب، ووجدتنى أرصد بعض انطباعاتى وأفكارى عنها على الورق، ثم أطلعه عليها فيبدى إعجابه ويأخذها منى. وبعد فترة يأتى ومعه مظروف يسلمه لى، أفتحه فأجد نسخة من مجلة «الأقلام» الثقافية العراقية، وفيها نص مقالى عن الرواية، ومظروف أصغر فيه مبلغ 30 جنيه هى مكافأتى عن المقال. وقتها وكنا فى سنة 1973 كان مرتبى يزيد قليلا عن هذا الرقم.

وحكاية أخرى جرت بعد ذلك بسنين، كان رءوف توفيق كناقد سينمائى قدير يعد أول كتاب له بعنوان «السينما عندما تقول لا» وهو مختارات من مقالاته ومراجعاته النقدية المنشورة فى «صباح الخير» لأفلام عالمية شاهدها فى مهرجانات السينما الدولية التى يحضرها بانتظام.

وكان تجميع هذه المقالات فى كتب فكرة من أفكار عمنا حسن فؤاد.. وكان الكتاب ضمن إصدارات دار «روزاليوسف».. وكسكرتير لتحرير «صباح الخير» كنت على علم بذلك وتمكنت من الحصول على بعض «بروفات» الكتاب من المطبعة، وقمت بإعداد عرض للكتاب نشر قبل صدوره، على صفحتين فى يومين متتاليين فى جريدة «القبس» الكويتية.

ولما أطلعته على الصفحتين شكرنى بأدبه المشهود، وسألنى هامسا:

= كم كانت مكافأة الصفحتين فى جريدة مرموقة؟

قلت: 400 جنيه

فأبدى اندهاشا شديدا وهو يؤكد لى أن هذا الرقم نفسه 400 جنيه هو المكافأة التى تسلمها من المؤسسة مقابل نشر الكتاب!.. وكنت أعرف أن هذا المبلغ نفسه هو راتب رئيس التحرير.

نواصل فى الأسبوع المقبل