الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ليلة لم ينم فيها «عماد الدين»!

امتثال
امتثال

لم تقتصر معارك الفتوات على مجرد فرض السيطرة والنفوذ على منطقة معينة أو الانتصار على فتوة من حى آخر، ولا على جانب الشهامة والجدعنةفقط!.فقد ذكرت الكتب والحكايات وسجلات المحاكم قصصًا عن فتوات مجرمين لم يسعوا لشيء غير الإجرام فى حد ذاته. وفتوات شارع عماد الدين فى فترة الثلاثينيات خير دليل.



 

 

 

 

شارع عماد الدين هو مزيج خاص بين المبانى الفرنسية الطابع ذات الأعمدة والتيجان والشرفات اليونانية، وتجمع فى طياتها بنايات ذات زخارف إسلامية شرقية تخطف الأبصار، وهو حاليًا يضم فنادق ودور سينما واستوديوهات فوتوغرافية أجنبية معظمها مغلق، لكن فى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى ضم الشارع عددًا كبيرًا جدًا من المسارح وصل إلى 15 مسرحًا أشهرها كان الرينيسانس والكورسال وبرنتانيا، وإجيبسيانا الذى بناه اليونانى كانغالوسوراسبوتين ورمسيس الذى كان يواجه مسرح الريحانى وغيرها الكثير وفى طيات الشارع شوارع فرعية بأسماء فنانين كبار أمثال الريحانى وسيد درويش.

 

 

 

كان الشارع هو ملتقى فنى متنوع بامتياز شهد ظهور كل الفنانين تقريبًا وقتها بكل عروضهم سواء الرقص أو الغناء أو العروض المسرحية أو السهرات الطويلة فى كازينوهات ذات طبيعة وطراز مبهر.

سيطر على شارع عماد الدين عدد كبير من الفتوات فكان كالبيضة الذهبية لهم بسبب عدد المسارح والمحال والكازينوهات التى يفرضون عليها الإتاوات والضرائب مقابل الحماية وعدم المضايقة أو التعدى على الزبائن كما كان يحدث فى أغلب الأوقات. وكان الجميع يخضع لهذه الأحكام العرفية حتى يأمن شر هذه العصابات التى لا تخشى أحدا، إلا إنه فى ذات ليلة جاءت امرأة واحدة استطاعت أن تقول لا فدفعت حياتها الثمن.

فى نهاية العشرينيات سيطر على الشارع البلطجى فؤاد الشامى وعصابته وفرض على الجميع إتاوات قدرها 50 جنيهًا شهريًا مقابل الحماية، وكانت عصابته تدخل الكازينوهات والصالات فتشرب وتأكل دون أن يدفعوا الثمن كنوع من أنواع «البلطجة» التى اتخذها فؤاد منهجًا.

 

 

 

وفؤاد الشامى كان قد ولد لعائلة متوسطة الحال تسكن حى القبيسى فى القاهرة وحين وصل إلى عمر 14 عامًا طرد من مدرسته بسبب سوء الأخلاق وبعدها بعدد من السنوات افتتح ناديًا صغيرًا لرفع الأثقال جمع فيه بعض شباب منطقة الظاهر ليتدربوا مقابل أجر شهرى، ولكن الحال لم يستمر طويلًا فقد كانت معاركه الدموية سببًا فى عزوف الناس عن النادى فقام بغلقه.

طاقة إجرامية

عمل الشامى لفترة فى شركة من شركات السجائر وطرد منها أيضًا لسوء سلوكه، فلما أصبح عاطلًا حاول توظيف طاقته الإجراميه فى الدخول لعالم الفتونة من خلال ناد للقمار منه أضاف لإجرامه إجرامًا وتركه بعد فترة ليذهب لشارع عماد الدين حتى يعكر صفو أهل الفن والثقافة!.

على الجانب الآخر كانت امتثال فوزى التى ولدت فى ديروط ثم انتقلت للقاهرة بعد فترة لتعيش مع أسرتها التى علمتها فى مدارس جيدة فأتقنت وقتها اللغة اليونانية لكن بعد وفاة والدها وزواج والدتها مرة أخرى أخرجتها من التعليم وفضلت أن تبقى فى المنزل.

لم تتحمل امتثال معاملة زوج أمها وعانت منه الكثير فهربت من منزلها إلى الإسكندرية وهناك عملت بمقهى كبير واحترفت الرقص حتى وصلت شهرتها إلى أنحاء مصر فسمعت عنها الراقصة والممثلة بديعة مصابنى فسافرت لها الإسكندرية وتعاقدت على العمل معها ورجعت امتثال للقاهرة ،حيث شارع عماد الدين الذى يسيطر عليه المجرم فؤاد الشامى وهنا كان اللقاء الأول!.

بعد فترة افتتحت امتثال كازينو البوسفور مع صديقتها مارى منصور وكانت ترقص فيه ،وكالمتعارف عليه ذهب لها فؤاد كى يطلب الإتاوة الشهرية فرفضت وسبته بكل الشتائم اليونانية والمصرية التى تعرفها جيدًا، فذهب وجاء برجاله ليشربوا ويسهروا فى الكازينو وفى النهاية لم يدفعوا شيئا الأمر الذى أغاظ امتثال فقررت طردهم من المكان بالقوة.

 

 

 

أرسل فؤاد الشامى لها تهديدات مختلفة حتى تتراجع وتدفع الإتاوة، أما هى فلم تبال به بل ذهبت وحررت محضرًا فى قسم الأزبكية وحرضت باقى الراقصات على رفض دفع الإتاوة، فلما رأى فؤاد الشامى وعصابته أن مكانتهم قد اهتزت قرروا الانتقام فى ليلة 22 مايو 1936.

حرض فؤاد واحدا من عصابته يدعى كامل الحريرى على قتل الراقصة إمتثال فوزى بعدما تنهى رقصتها ليلًا، وبالفعل ذهب الحريرى وهو سكران وفى يده نصف زجاجة حادة ليغرزها فى رقبة إمتثال فتلفظ أنفاسها الأخيرة على الأرض وهى غارقة فى دمها فى مشهد مرعب ومفزع للجميع.!

انقلبت الدنيا رأسا على عقب لم ينم شارع عماد الدين لأيام وامتلأ بالمحققين والعساكر والضباط والأجانب، وشغلت قضية مقتل امتثال الرأى العام المصرى وقتذاك كما لم تشغله قضية سياسية، فقد ناقش البعض القضية على أنها اجتماعية وجنائية وسياسية بسبب تخاذل دور وزارة مصطفى النحاس فى حماية المواطنين وبسبب التقصير فى اتخاذ إجراءات حماية تجاه حياة الراقصة بعدما أبلغت القسم ولم يحركوا ساكنًا!

بدأت التحقيقات فى القضية وتم القبض على فؤاد الشامى وعصابته واستدعاء الشهود فكانت مارى منصور أول الشهود باعتبارها شريكة امتثال وصديقتها وقد ترددت فى شهادتها بسبب خوفها الشديد، ففى عدد روزاليوسف الصادر يوم 26 مايو 1936 أن الممثلة مارى منصور صاحبة الصالة التى قتلت فيها امتثال أخذت تتردد فى أداء شهادتها قائلة: إن الذى يدفعها إليه خوفها من الفتوات وأكدت أنها «ميتة ميتة».

أجمعت الصحافة كلها فى هذا الوقت على ضرورة وضع حد للفتوات فى مصر فشنوا هجومًا ضاريًا على الحكومة لكونها السبب الأول فى تفشى ظاهرة الفتونة وتصدرت صورة امتثال الصفحات الأولى لأيام، بل يحكى صبرى أبو المجد فى كتابه «سنوات ماقبل الثورة» أن بعض الصحفيين ذهبوا إلى مرقص بك فهمى رئيس مكتب المباحث الجنائية طالبين تصريحا بحمل الأسلحة النارية للدفاع عن أنفسهم ضد هجوم الفتوات عليهم.!

أصدر وقتها مصطفى النحاس باشا رئيس الحكومة قرارات بإيقاف وإلغاء الفتونة ووضع حد قانونى لها، واستكملت التحقيقات وحكم على فؤاد الشامى وعصابته بالأشغال الشاقة.

وكشفن التحقيقات وقتها أن عالم الفتوات لم يقتصر على المصريين فقط بل كان هناك فتوات أجانب احترفوا المهنة وكانت الامتيازات الأجنبية تحميهم، كذلك لم يكن الفتوات فى شارع عماد الدين بالتحديد فتوات صالات بل فتوات انتخابات أيضًا ومعارك خاصة وكانوا يعملون بتسعيرة محددة، مثل هدم منزل بخمسين قرشًا، إحداث إصابة عادية جنيه واحد، إحداث إصابة تسفر عن عاهة مستديمة عشرة جنيهات والتهديد 150 قرشًا كل ذلك بجانب الاتفاق على دفع أتعاب المحامى فى حالة القبض على الفتوة ودفع مرتب له طوال فترة السجن!