السبت 16 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
حرب «تيجراى» وأزمة سد النهضة
كتب
جمال طه

صراع عرقى يشعل إثيوبيا

حرب «تيجراى» وأزمة سد النهضة

«آبى أحمد» تبوأ الحكم عام 2018، وأصبح أول رئيس إثيوبى ينتمى إلى قومية «أورومو»، خلفًا لرئيس الوزراء السابق «هايلى ماريام ديسالين»، الذى ينتمى إلى قومية «تيجراى».. التغيير تم عبر إصلاحات داخل الائتلاف الحاكم، وليس عبر انتخابات تنافسية، أعقبه محاولة تأسيس نظام سياسى جديد يقوم على «المواطنة» و«الدولة المركزية»، بدلًا من رابطة الإثنية التى أوصلت البلاد إلى حافة الانهيار والتفكُّك.. أسس حزبًا  لجمع القوميات «الازدهار الإثيوبى»، لكنها باستثناء الأمهرة رفضته، لأنها رأت فى مشروع «آبى أحمد» محاولة للسيطرة على الأقاليم، والتحول إلى حاكم مطلق، يحتكر القوة ويفرض النفوذ.



تحالف «آبى أحمد» مع «أمهرا» أثار كل القوميات الأخرى، خاصة «أورومو»، التى كان يفترض لها أن تشكل ظهيره السياسى. 

اضطراباتهم انفجرت فى أكتوبر 2019، على خلفية تحرش السلطات بـ«جوهر محمد» زعيم المعارضة، وتجددت فى يونيو 2020 على خلفية مقتل أيقونة الثورة المطرب «هاتشالو هنديسا»..

 «آبى أحمد» اعتقل رموز المعارضة، وأغلق قنوات إعلامية مستقلة، وقطع الاتصالات والإنترنت لأسابيع، ما يؤكد أنه لم يستوعب دروس التاريخ، لأن استمرار احتجاجات الأورومو لثلاث سنوات، كان سببًا فى سقوط «ديسالين».

تحركات المعارضة

منذ وصول «آبى أحمد» إلى السلطة، جعل رئيس الوزراء من «جبهة تحرير تيجراى»، ليغطى عمليات التطهير الواسعة بدعوى محاربة الفساد، التى استهدفت التخلص من قيادات «الجبهة» التى تحكم مؤسسات الدولة العميقة «الجيش، المخابرات، الرئاسة، الخارجية...».. لكن ضباط التيجراى الذين أُحيلوا للتقاعد فى عمليات التطهير عادوا إلى الإقليم ليدربوا المجندين الجدد، ما أثار القلق من زعزعتهم لاستقرار البلاد.

سياسات «آبى أحمد» لم تحل مشكلة الاندماج القومي.. فقد ظهر انفصال مسلح فى إقليم أوروميا، وتشكيلات عصابية ارتكبت مجازر ضد المدنيين فى أمهرة.. وخرج المتظاهرون يحرقون صوره ومؤلفه الشهير «الاندماج الوطنى»، وبدأ «جوهر محمد» يحرك المليونيات المناهضة، التى اعتبرته المرشح الأجدر برئاسة الحكومة.. «آبى أحمد» تعرض لمحاولة اغتيال يونيو 2018، ومحاولة انقلاب بإقليم أمهرة يونيو 2019، ثم اغتيال رئيس الأركان إثر محاولة انقلابية فى أمهرة يوليو الماضى.

خمسة أحزاب سياسية أسست فى مايو 2019 ائتلافًا معارضًا «الحزب الديمقراطى الإثيوبى الموحد»، قومية «السيداما» أجرت استفتاء بين مواطنيها فى نوفمبر 2019، حصل فيه الانفصاليون على 98.5 % من جملة من أدلوا بأصواتهم، وأصبحت الإقليم رقم 10 ضمن الفيدرالية الإثيوبية.. و«الجبهة» أكدت تمسكها بمشروعها السياسى الذى يستند إلى نظام «الفيدرالية الإثنية»، ورفضت الانخراط فى نظام مركزى، يمس هويتها العرقية، ما أدى إلى تصاعد منذ سبتمبر الماضى.

تعليق الإنتخابات

«آبى أحمد» قرر تعليق الانتخابات التشريعية والرئاسية، التى كانت مقررة فى أغسطس 2020 بحجة تفشى فيروس كورونا.. «الجبهة» اتهمته بالتحايل للبقاء فى الحكم.. القرار أحدث بالفعل فراغًا دستوريًا، حاولت الحكومة تجنُّب تداعياته، بتمديد فترة أعضاء البرلمان والمجالس المحلية المنتخبة لمدة عام، لكن التيجراى اعتبرته إجراء غير دستورى، ومضت فى إجراء انتخابات الإقليم فى 9 سبتمبر، ضد إرادة الدولة، البرلمان اعتبر ذلك «غير دستورى»، وقطع العلاقات مع حكومة وبرلمان الإقليم اللذين تشكَّلا بموجب هذه الانتخابات، وقلصت الأموال الفيدرالية المخصصة له، وهو ما اعتبرته «الجبهة» إعلان حرب.. البرلمان قرر حل الحكومة التيجرانية فى 7 نوفمبر، وتشكيل حكومة محلية مؤقتة، مما فرض الصدام. 

«الجبهة» هى التى قادت التمرد المسلح للإطاحة بالنظام الماركسى فى أديس أبابا 1991، قبل أن تتحول إلى حزب سياسي، وطوال 3 عقود امتلكت الكلمة العليا فى الحكومة الاتحادية، رغم أنها ثالث أكبر العرقيات «7.3 % من السكان».. ميليشيات التيجراى تقدر بنحو ربع مليون مقاتل، شاركت فى الحرب ضد إريتريا بين 1998 و2000، واستولت على كميات ضخمة من الأسلحة، تشمل مدفعية ثقيلة وصواريخ ومضادات طيران ودروعًا.. لذا فهى أكبر قوة عسكرية بعد الجيش.. خطورة الموقف فرضت على رئيس الوزراء تجنب الصدام العسكري، لكن البرلمان فرض على الحكومة التدخل فى الإقليم مطلع نوفمبر.

سقوط الشمال

القوة الضاربة للجيش الإثيوبى «القيادة الشمالية»، يتبعها نصف تعداد الجيش وأكبر مخازن السلاح، وأربع من بين ست فرق ميكانيكية، تتمركز فى إقليم التيجراى، لوقوعه على خط المواجهة مع إريتريا، بمجرد إعلان الحرب هاجمتها الجبهة للاستيلاء على المدفعية والمعدات العسكرية.. الحكومة فرضت حالة الطوارئ، وأطلقت العملية العسكرية، لكن القيادة الشمالية أعلنت العصيان، ورفضت الانصياع للأوامر، قوات التيجراى استولت على رئاسة القطاع والفرقة الخامسة مدرعات «حوالى 700 دبابة بخلاف المركبات المدرعة»، لذلك أقال «آبى أحمد» قائد الجيش، ورئيس المخابرات ووزير الخارجية 8 نوفمبر، وشن الطيران غارات جوية عنيفة، دمرت مستودعات الأسلحة ومحطات الوقود.. الحكومة تأخرت فى تحريك وحدات الجيش من مناطقها العسكرية المركزية والجنوبية، خشية ترك فراغ يغرى بالفوضي، ما دفع إثيوبيا لطلب الدعم العسكرى من الدول المجاورة «إريتريا وجنوب السودان». 

«آبى أحمد» يمر بمنعطف خطير، نتيجة لاتجاه القوميات إلى الصدام مع النظام، ولكنها غير قابلة للتوحد فى مواجهة الحكومة المركزية، نتيجة للعداء المتأصل بينهم، ما يعنى التفتيت.. تأزم الموقف جعل «آبى أحمد» غير قادرٍ على الاحتفاظ بسمعته كقائد سياسى حائز لجائزة نوبل للسلام 2019، ودكتوراه فى «بناء السلام»، وفى الوقت نفسه لم تعد سياسات القمع تضمن احتفاظه بالسلطة، وأصبح من الضرورى طرح مقاربات سياسية مختلفة، ما يفسر اقتراح تنظيم «حوار وطنى شامل» كمخرج للأزمة، لكنه قد يضطر لإجراء «الانتخابات»، كسبًا للشرعية، رغم أن نتائجها غير مضمونة، فقد استنزف شعبيته، بينما عززت الأزمة قوى المعارضة، ما ينبئ بأن إثيوبيا على أعتاب تغيُّر سياسى قد يعقب موجات من الفوضى.

الأزمة والسد

تعقُّد الموقف على هذا النحو يؤكد استحالة الحسم السريع للمواجهة الراهنة عسكريًا.. طول مدة الحرب يفرض تداعيات إقليمية.. إثيوبيا شهدت خلال العام الحالى نزوح أكثر من 1.5 مليون شخص، وتسجل منذ عام 2018 أعلى معدلات نزوح داخلى فى العالم، نتيجة تفاقم الأزمة والصراع فى الأقاليم، وبعد انحياز إريتريا لإثيوبيا بدأ النزوح بقوة فى اتجاه السودان.. الجيش الإثيوبى متوغل فى الأراضى السودانية بقطاع الشفقة نحو 12 كم، الحرب قد تدفعه لسحب قواته، مايسمح للسودان باستردادها.. قطع الحكومة الإمدادات عن التيجراى، نشَّط عمليات تهريب السلع الاستهلاكية والوقود، لتوفير الدعم اللوجستى للإقليم بالمناطق الحدودية، لأنه لا يملك موانئ ولا سواحل.. لكن السودان يعانى شُحَّا فى السلع، ما يهدد بارتفاع أسعارها، وهناك محاولات لإشعال الموقف، وهو ما أكده ضابط استخبارات الفرقة الثانية مشاة التابعة للجيش السودانى بشأن ضبط عربات كارو تحمل 95 ألف طلقة رصاص وكمية من المخدرات. 

الجميع يتساءل عن تأثير التطورات الراهنة فى إثيوبيا على أزمة «سد النهضة».. البعض تصور أن الاضطرابات، أو زيادة حظوظ التيجراى، قد يصب فى صالح إنهاء مماطلات النظام الإثيوبى، والتوصل لحلول بناءة، متجاهلين أن التيجراى هم من صنعوا الأزمة، وهم أكثر القوميات الإثيوبية كراهية لمصر.. وعلى العكس فإن الحرب قد توفر للنظام مبررًا لمزيد من التأجيل والمماطلة، أما لو أثرت على ترابط الدولة، فربما تعرقل تنفيذ المشاريع الطموحة الخاصة ببناء شبكة سدود على النيل الأزرق، لكنها لم ولن تؤثر على معدلات بناء سد النهضة.

مصر تحرص على التواجد بالمنطقة، من خلال تعزيز قدرة السودان على توفير إمكانات الإيواء والإعاشة للاجئين الإثيوبيين، تأكيدًا لمواقفها البناءة، والتزامًا بمبدأ التعاون المشترك، لكن تزامن ذلك مع مشاركة القوات الجوية والصاعقة المصرية فى مناورات بالسودان يوجه رسالة سياسية، تؤكد عدم التفريط فى حقوقنا المائية، ومصالح أمننا القومى. على الجميع فى بلاد النجاشى أن يتفهموا أن مصر «هبة النيل».. ذلك واقع تاريخى لا يملك أحد القدرة على تغييره.. وهو ما تحرص مصر على حمايته بالوسائل كافة.