وليد طوغان
حتى لا يتطرف المسلمون؟!
مشهد جلوس الأئمة فى الأكاديمية العسكرية أمام الرئيس مشهد ذو دلالة. وكلام رئيس الدولة المصرية، للأئمة مانع جامع.
الأئمة حراس الحرية،لأن الدين حرية. والدين قبول للآخر، وهو مصلحة أرادها الشارع من شرعه.
يكتسب الأئمة مكانتهم من العلم الشرعى.
والعلم الشرعى، فى عصر الاضطرابات، هو العاصم من شطط وتطرف، وهو العاصم من التهاوى.
العلم الشرعى السليم، هو أقرب التصورات البشرية، لمقصود الله من شرعه. لذلك فإن العالم، هو افتراضًا أقرب البشر إلى فهم مراد الله من شريعته.
ليس فى الإسلام كهانة، ولا كهنوت، هذا صحيح؛ لكن الإمام لا يُحسَب على مفهوم الكهانة؛ إنما يُحسب على مدارك العلوم.
يُفهم الدين على مقاصده، بفهم الأسس التى توضح المعنى من المقصد، والعلة والسبب فى المقصود.
فى عصور الاضطرابات، تظهر الأهمية القصوى للفهم الصحيح للدين.
وفى عصور الإرهاب، والتأويل المحرم، والخداع باسم كتاب الله، والمناورة باسم سُنة رسوله، تلوح الأهمية الأكبر فى علم سليم بلا غرض، ولا هوى.
صحيح ليس فى الإسلام احتكار للعلم الشرعى؛ لكن فى الإسلام أيضًا، أن العلوم الشرعية أساس للدخول إلى فهم مقاصد الله، وبالتالى القدرة على نقل مقاصده سبحانه، من آياته البينات إلى مجتمع يسعى إلى السلام النفسى، والهدوء الجمعى.
تصح مجتمعاتنا، ومجتمعاتنا بالذات، لو صح فيها الدين.
وتسقط مجتمعاتنا، ومجتمعاتنا بالذات، لو اضطرب فيها الفهم، وغُم على أفرادها مقصود الشارع من الشرع، واختلطت فيها مقاصد الله بمقاصد البشر، واستقر فيها ما للبشر، على أنه ما لله.
-1-
يُفهَم الدين على ثلاثة: إما الدين كما أراده الله، وإما كما فهمه البشر عن مقصود الله، وإما الدين كما يجب أن يكون.
لذلك اختلفت فى تعريف الدين وجهات النظر.
قالوا إن الاسلام معاملات تصح بها الدنيا، وعبادات تصح بها الآخرة.
وقيل إن الإسلام هو مفهوم الشارع من الشرع.
والشارع الأكبر هو الله، والشرع هو ما قصده الله من شريعته، وبالتالى فإن الإسلام الصحيح، هو المقصود السليم الذى فهمه البشر، واختبروه عما قصده الله من دينه.
تظل الأزمة والمعضلة، وأساس الخلاف، وأساس الفرقة، وأساس التطرف، هو مفهوم البشر عن مقصود الله.
قال ابن عباس: سيأتى بعدنا قوم، كتابهم واحد، ورسولهم واحد، ودينهم واحد، يقرأون آيات الله، فلا يعرفون فيما نزلت، فيؤلونها، ثم يختلفون فى التأويل، ثم يقتتلون فيما اختلفوا فيه.
ربما أول من تكلم عن التطرف، كان ابن عباس.
والتطرف هو المفهوم القاصر لكتاب الله، وآياته سبحانه. يعنى الخلل فى مفهوم الشارع من الشرع.
مع الخلل فى الفهم، والسوء فى التأويل، ينشأ التطرف، وتشتد حمى القتل والإرهاب، مرات بحجة كتاب الله، ومرات بحجة أوامر رسول الله، مع أن الله لم يأمر بتطرف، ومع أن رسوله الكريم لم يحدث أن أقر مرة قتلًا ولا سفك دماء ولا الاعتداء على حرمة.
لم يحدث أن أمر الله برفع كتابه فوق أسنة الرماح طلبًا لحكم، ولا أمر سبحانه بأن تقطع الرقاب، وأن يرفع السلاح فى وجه الدولة وفى وجه رجل الشارع البسيط طلبًا للحكم، ورغبة فى السلطة.
«إما أن نحكمكم أو نقتلكم» ليست معادلة إسلامية.
لم يحدث أن اختار الله جماعة، وسماهم أهله، ولا حدث أن نصَّ القرآن على حزب أو فئة، وسماهم أحباء الله والمصطفين من خلقه.
لكن لمّا ينشأ التطرف، تخرج الجماعات من تحت الأرض، ويخرج الانتهازيون الربانيون من بطون الجحور، ليأولوا الإسلام، فيدعون بالتأويل، ويقتلون به على الخلاف وعلى الاختلاف.
لمّا ينشأ التطرف، يتستر الثعابين بملابس أهل الدين، ويستعير الشيطاين غصبًا ملابس الرهبان، فيقتلون وهم يرفعون شعارات «الإسلام دستورًا، والله غاية، وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة».. خلاصة.
-2-
يظل التوصل إلى مقصود الشارع من الشرع محل خلاف.. ومحل قصور.
الأسباب مختلفة، منها أن العقل الإنسانى مهما وصل من علم، فهو لا يرقى إلى ما لدى الله من قدرة.
لذلك اتفق أصحاب الذوق السليم من العلماء، طوال مراحل الفقه الإسلامى، على أن القصد من الشرع هو المصلحة.
لذلك أقر الفقه الإسلامى قاعدة: حيثما توجد المصلحة فثمة شرع الله.
وأقر أصحاب الذوق السليم التأويل على المصلحة، وإنزال الأحكام الشرعية عليها، وتغير الأحكام الشرعية، عندما تتغير المصلحة، مع تغيُّر الأزمان.
سأل رسول الله أحد قادته للبلاد المفتوحة: بما تحكم؟
قال: بكتاب الله.
سأل الرسول: فإن لم تجد؟
قال: بسنة رسول الله؟
قال رسول الله: إن لم تجد؟
قال: أنزل على حكم الله فيهم.
غضب رسول الله «صلى الله عليه وسلم» وقال : إنما تنزل على حكمك أنت.. فإنك لا تدرى ما حكم الله فيهم.
وفى حديثه لبريدة أوصاه رسول الله: خذ العفو.. وأمر بالعرف.
فتح الرسول «صلوات الله وسلامه» عليه الباب فى الأحكام الشرعية، والدنيوية للحرية الفكرية على اساس المصلحة.
لذلك اعتبر أهل العلم من أصحاب الذوق السليم، أن أول مقاصد الشرع هو حفظ النفس والعرض والدم والدين والمال.
ما دون ذلك، فإن الإسلام منح من الحرية لبنى البشر، ما يرغبون فيه، من فكر، ومن اعتقاد، ومن مسالك شريطة ألا تقود المسالك إلى المهالك فى مجتمعات تنشد السلام، وتسعى للتقدم، ومفترض فيها أن تعمل للدنيا بقدر ما تعمل للآخرة.
حصَّن الإسلام أهل العلم من أصحاب الذوق السليم، ليس لمكانة كهنوتية؛ إنما مقتضيات المصلحة.
على أساس أننا اتفقنا على أن العلم السليم بالشرع هو أساس عصمة المجتمعات، من الإرهاب، ومن الفكر الخاطئ، والتأويل المسيَّس، وهو العاصم أيضًا من التقول على مقاصد الله من شرعه وشريعته.
قال الرئيس عبدالفتاح السيسى للأئمة إنهم حراس الحرية.
والإسلام حرية، من أول حرية الاعتقاد، إلى حرية العلاقة بين الإنسان وربه.
حصَّن الإسلام حرية العقيدة، وحصَّن حتى حرية ترك الاعتقاد فى الله لمن أراد.
حصَّن الإنسان الآخر والمغاير، مهما كان، فأقر قواعد المسـتأمنين، والمغايرين فى الدين، فيما أقر قواعد السلام للجميع، مع كافة حقوق حفظ النفس والعقيدة والدم والمال.
-3-
أقر الإسلام ضمن ما أقر من حريات، حرية الاجتهاد، ونص عليها وأوجبها.
اختلف عمر بن الخطاب مع أبي بكر الصديق، لما بدأ الأخير يجهز جيشه لحروب الصدقة.
قال عمر بن الخطاب: «لو لم تكن فتنة.. لمنعته».
وقصد عمر أنه لو لم يكن منعه لأبى بكر من خروج الجيش للقتال سببًا لفتنة بين المسلمين لكان قد أصر على منع أبى بكر.
فى واقعة حروب الصدقة، كان عمر بن الخطاب مجددًا، بينما قد يعتبر أن أبا بكر الصديق كان أصوليًا.
قال أبوبكر: سأقاتل من يمنعنى عقالا كان يمنحه لرسول الله.
عمل أبوبكر على حفظ كل ما كان يمنح من المسلمين لرسولهم حتى بعد وفاته «صلى الله عليه وسلم».
لكن عمر كان أكثر اجتهادًا فى تلك الواقعة، وفطن إلى أن ما كان يمنح لرسول الله من صدقة فى حياته، لا بد أن يسقط بعد وفاته.
إذ إن ما كان يمنح لرسول الله «صلى الله عليه وسلم» من صدقة، كان حقًا خاصًا بالنبى، لا ينتقل إلى أحد بوفاته، حتى ولو كان الخليفة «أبوبكر».
الاختلاف هنا فى الفهم.. وفى التفسير وفى التأويل.
لذلك عارض عمر خروج الجيش، بينما أصر أبوبكر، ولما خاف عمر الفتنة، صمت وسكت.
سكت عمر للمصلحة.
وفى عصور الصحابة، فطنوا رضوان الله عليهم، أن حراسة الدين، حراسة المصلحة،لأن المصلحة، هى أساس مقصد الشرع من الشارع، فى أمور الدنيا، وفى أبجديات الإسلام.
المعركة مستمرة، وإعداد أرباب العلم الشرعى من أصحاب الذوق السليم كإعداد المقاتل.
هذا يقاتل على الأرض.. وذاك يقاتل فى خائنة الأنفس وما تخفى الصدور.
قتال الأذهان والأنفس لو تعلمون عظيما.
