عادل حافظ
إقامة جبرية
حين دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية بعد الهجوم المفاجئ على «بيرل هاربور»، استدعت علماءها على عجل.
وكانت القوات الجوية الأمريكية اعترفت رسميًا بقيمة العالم الصينى «تشيان شيوهسن»، ومنحته تصريحًا أمنيًا أتاح له الوصول إلى أكثر المشاريع الجوية سرية فى البلاد. كما تم منحه رتبة عقيد شرفى فى مجلس الاستشارات العلمية للقوات الجوية، وكان ذلك ثقة نادرة، إذ كان لا يزال أجنبيًا ولم يتقدم يومًا ليحمل الجنسية الأمريكية، رغم مساهماته بالغة الأهمية منها أبحاث الإقلاع النفاث للطائرات، والطيران فوق الصوتى، والنظريات الأولية التى ستصبح لاحقًا أسس الصواريخ الباليستية. التى مثلت الركيزة التى سوف يبنى بها برنامج الفضاء الصينية لاحقا.
فى عام 1947، أصبح أستاذًا فى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، وكانت تلك الخطوة إنجازًا مذهلًا لعالم صينى فى زمن نادرًا ما كان يُسمح للأجانب باعتلاء هذه المناصب. صار اسمه يتداول فى المجلات العلمية والتقارير العسكرية، وحساباته تدعم تصاميم طائرات تقطع مسافات أبعد وبسرعات أكبر.
ومع نهاية الأربعينيات، كانت أمريكا قد خرجت منتصرة من الحرب، لكنها انزلقت إلى صراع جديد، هو الحرب الباردة والخوف من الشيوعية، والجواسيس والمتسللين. وبالنسبة لرجل مثل تشيان، له صلات بالصين، كان الشك دائمًا حاضرًا.. ففى عام 1950، جُرد من تصريحه الأمنى، وفتشت السلطات منزله، واعترضت بريده، واستجوبته، حيث عاش 5 أعوام تحت الإقامة شبه الجبرية.. وصار ممنوعًا من دخوله. مختبر الصواريخ الذي شارك فى تأسيسه، ما أدى إلى تزايد رغبته فى العودة إلى وطنه.
كُسر هذا الجمود فى عام 1955، حين تمت صفقة بين واشنطن وبكين، أُطلق فيها سراح تشيان حيث قررت أمريكا مقايضته بجنودها الأسرى لدى الصين. وظنت أنها تخلصت من عبء خطر، لكنه لاحقًا أصبح الرجل الذى غير ميزان القوى فى آسيا والعالم.
لم تكن عودة تشيان حدثًا عاديًا بالنسبة للحكومة الصينية، التى حلمت أن تقف بين القوى الكبرى فى العالم. ولأجل ذلك، كانت بحاجة إلى صواريخ وأقمار صناعية، وقد عاد إلى الوطن رجل يستطيع تحويل هذه الأحلام إلى واقع.. استقبل «تشيان» استقبال الأبطال من كبار المسئولين. ونُقل مباشرة إلى بكين، حيث استقبله رئيس الوزراء بنفسه. ورحب به قائلًا «وطنك كان فى انتظارك».
لم يكن لدى الصين صناعة صواريخ حقيقية، ولا مختبرات متقدمة، ولا فريق من المهندسين المدربين فى أسرار علوم الصواريخ وعلوم الفضاء. ومع ذلك، بدأ تشيان بما امتلكه دومًا، وضوح الرؤية وقدرته على تنظيم العقول. فجمع حوله مهندسين حديثى التخرج، ودربهم بالصرامة والدقة اللتين تلقاهما فى «كالتيك». وغرس فيهم المعادلات وروح الاستقصاء، والإيمان بأن العلم قادر على رفع الأمة.
ففى غضون أعوام قليلة، قدم تشيان خارطة طريق مفصلة لبرنامج الصواريخ والفضاء الصينى.
واستند فى خطته إلى معرفته العميقة بأنظمة الصواريخ الألمانية، وإلى خبراته فى الدفع النفاث الأمريكى، ونظرياته فى الديناميكا الهوائية، فرسم مسارًا تدريجيًا، من صواريخ قصيرة المدى إلى الصواريخ متوسطة المدى، ومن القدرة العابرة للقارات إلى الأقمار الصناعية التى تدور حول الأرض.. لم تكن خطته تقنية فقط، بل استراتيجية أيضًا. فقد أدرك أن الصواريخ تعنى الكثير فى حماية الوطن، فإنها درع وسيف فى زمن تهيمن فيه الأسلحة النووية وصراع الحرب الباردة.
أصغت له القيادة الصينية. وتمت الموافقة على الخطة، ونتيجة لذلك، أعلنت الصين أنها سوف تمتلك صواريخها الخاصة، حتى لو اضطررت الأمة إلى التضحية بأساسيات الحياة التقليدية.
وفى العدد المقبل نكمل..



