رشاد كامل
د.عبدالعظيم رمضان تلميذًا فى مدرسة روزاليوسف!
كنت سكرتيرًا لتحرير مجلة «صباح الخير» عندما كان الدكتور عبدالعظيم رمضان ينشر سلسلة مقالاته بعنوان «عبدالناصر وأزمة مارس»، ثم مقالاته عن «الصراع بين الوفد والعرش» وقد صدرت فى كتابين بعد ذلك!

كان دورى كسكرتير تحرير وقتها - وقت رئاسة العظيم «حسن فؤاد» أن أبعث بالمقالات إلى قسم الجمع ومتابعتها حتى تتم طباعتها مع باقى مواد المجلة.
وفى تلك الفترة عرفت أكثر عن قرب د.عبدالعظيم رمضان، عندما كان يأتى للمجلة مرتين أسبوعيًا لتسليم المقال مرة، ومراجعته مرة ثانية، وعندما قلت له ذات مرة إننى قرأت كتابه الرائع «تطور الحركة الوطنية فى مصر» بجزأيه الأول والثانى والذى يغطى الفترة من سنة 1918 حتى سنة 1948 أذكر أننى طلبت منه على استحياء أن يهدينى أحد كتبه، وبالفعل فقد أهدانى كتاب «صراع الطبقات فى مصر».. وكتب فى إهدائه لي: إلى الأخ العزيز الأستاذ «رشاد» مع تحياتى وإعزازى، عبدالعظيم رمضان 5/8/1987.
وبعد ذلك أهدانى.. «الصراع بين الوفد والعرش».. وكتب لى «إهداء إلى أخى العزيز رشاد كامل مع خالص الود والمحبة عبدالعظيم رمضان 8/1/1980».

واستمرت الصداقة والمحبة والاحترام طوال سنوات حتى أصبحت رئيسًا لتحرير «صباح الخير» وبالتالى عضوًا فى المجلس الأعلى للصحافة ابتداء من صيف 2003 وحتى شتاء 2011، وطوال تلك السنوات زاملت واقتربت من د.عبدالعظيم رمضان وغيره من نجوم وأساتذة الصحافة.
■ ■
كان د.عبدالعظيم رمضان شديد الاعتزاز بتجربته فى الكتابة فى روزاليوسف وصباح الخير حتى بعد أن ترك الكتابة فيهما، لكنه كان دائم الحديث عن تلك الأيام، وتقديره ومحبته لكل من فيها.
واللافت للنظر أنه كتب ذكرياته عن تلك الأيام ليس فى روزاليوسف أو «صباح الخير» بل فى مجلة أكتوبر وقت رئاسة الكاتب الكبير «أنيس منصور» لها وهى تحتفل ببدء عامها العاشر، وكان مقال د.عبدالعظيم رمضان بعنوان «حرية الفكر بين الشرقاوى وأنيس منصور» جاء فيه:
«كانت آخر المجلات التى تصورت نفسى أكتب فيها هى مجلة أكتوبر بالذات، فحين صدر العدد الأول منها فى 31 أكتوبر 1976 كنت أحد كتاب «روزاليوسف» و«صباح الخير»، حين كان الصديق والمناضل الكبير الأستاذ «عبدالرحمن الشرقاوى» يرأس مجلس إدارة روزاليوسف، وكان الأخ العزيز «صلاح حافظ» يرأس تحرير مجلة «روزاليوسف»، ويرأس المرحوم «حسن فؤاد» تحرير مجلة «صباح الخير».
وكانت المجلتان تعيشان عصرهما الذهبى، حيث بلغ توزيع «روزاليوسف» أكثر من مائة وخمسين ألفًا، وكانت ذات شهرة عارمة فى العالم العربى، فقد حدثنى كثير من الأصدقاء من بلاد عربية كثيرة أن قراء المجلة كانوا ينتظرون طوابير وقت وصول المجلة إلى المتعهدين، لينال كل منهم نسخته، هذا فضلًا عن القراء فى مصر!

كنت فى ذلك الحين أفخر بأننى أنتمى إلى مدرسة روزاليوسف مدرسة «عبدالرحمن الشرقاوى» و«صلاح حافظ» و«حسن فؤاد»، المدرسة التى يكتب فيها «فتحى غانم» و«عبدالستار الطويلة» و«فيليب جلاب» و«عبدالله إمام» وغيرهم من الكتاب والمفكرين الذين يمثلون اليسار الوطنى الذى يضع مصلحة التراب قبل مصلحة الطبقة والذى يتمتع بحس مرهف تجاه مصر رغم اتجاهاته القومية العربية، وقدر لهذا اليسار الوطنى أن يصطدم اصطدامًا خطيرًا مع اليسار الأممى فى مصر حول مبادرة السلام للرئيس الراحل «السادات»، فقد أيد المبادرة فى الوقت الذى رفضها فيه اليسار الأممى رفضًا باتًا، واستمطر اللعنات على من أيدوها وساندوها!
وكنت أتمتع بحرية تامة فى الكتابة، فلا أذكر أن «صلاح حافظ» فى «روزاليوسف» أو المرحوم «حسن فؤاد» فى صباح الخير حذفا مما كتبت، وقد تعلمت على يدى صلاح حافظ، كيف أكتب عنوانًا صحفيًا، فقد كان يتمتع بموهبة خارقة فى هذا الصدد، ويمتلك قلمًا سحريًا يحول به العناوين الميتة إلى عناوين تنبض بالحياة والجاذبية والتشويق.
ويضيف د.عبدالعظيم رمضان قائلًا:
لم يكن الأستاذ «صلاح حافظ» يحسن الظن كثيرًا بما أختاره لمقالاتى من عناوين، وكان يغرق فى الضحك وهو يقرأ العنوان ويقول لى لائمًا: يا دكتور هذا عنوان كتاب وليس عنوان مقال!!
وقد اكتشفت على يديه سحر العناوين وقوتها وتأثيرها على القراء، كتبت يومًا مقالًا بعنوان «مصر بين السلطة العلمانية والسلطة الدينية» هاجمت فيه تدخل خطباء المساجد والجوامع فى السياسة وهجومهم على حزب التجمع وقلت إنه يوجد فيما يبدو إلى جانب الحكومة المدنية حكومة دينية!
وقد شطب «صلاح حافظ» هذا العنوان وكتب بدله: «حكومة مصر وحكومة المشايخ»! وصدر العنوان بالبنط الكبير على الغلاف.
وكتبت مرة مقالًا أهاجم فيه الأستاذ «علوى حافظ» لنشره مذكرات تبدو فيها الدعاية والترويج للولايات المتحدة بطريقة مستترة، واخترت له عنوانًا ظننت أنه يشد «صلاح حافظ» وهو «استخدام المذكرات السياسية للدعاية لدولة أجنبية» «ولكنه بعد أن قرأ المقال شطب - وهو يضحك - على العنوان وكتب عنوانًا جديدًا هو «المعنى السفلى لمذكرات علوى»!
■ ■
ويسترسل «د.عبدالعظيم رمضان» فى ذكرياته مع «صلاح حافظ» فيقول:
وكتبت مقالًا أهاجم فيه الطبقة الانفتاحية الجديدة التى تنادى بتطبيق الشريعة الإسلامية، ولا تهاجم تكديس الثروات، وفى الوقت نفسه تكره تطبيق الأساس الاقتصادى للشريعة الإسلامية، واخترت له عنوانًا اعتقدت أنه سوف يكفينى شر لسان الصديق «صلاح حافظ» وهو «بين شريعة الله وشريعة الناس».. لكنه اختار عنوان «جمعية المنتفعين بتطبيق الشريعة الإسلامية» وصدر العنوان عريضًا على الغلاف!
على أن الرئيس الراحل «السادات» لم يتحمل طويلًا كتابات روزاليوسف الثقيلة وجرأة كتابها، ولم ير وسيلة للتغلب على هذه المشكلة إلا عزل رؤساء تحرير مجلاتها ومعهم رئيس مجلس إدارتها، فعزل الأستاذ «عبدالرحمن الشرقاوى» والأستاذ «صلاح حافظ» وسافر الأستاذ «حسن فؤاد» إلى لندن.
وتولى المرحوم «مرسى الشافعى» رئاسة مجلس إدارة دار «روزاليوسف»، وكانت مهمته القضاء على كُتّاب روزاليوسف، على أن الرجل كان شجاعًا، فقد تحمل المسئولية، ودعا الكتاب إلى التعاون معه على نحو ما كانوا يتعاونون مع رؤساء التحرير المعزولين، وكان كريمًا فاستحلفنى بالله ألا أتركه، ورأيت جدية الرجل فظل التعاون معه من جانبى كما كان مع سابقيه!
على أنه بدأ منذ ذلك الحين التدخل فى الكتابة عن طريق حذف ما يمكن أن يثير غضب الحاكم، وكان هذا الحذف - للحقيقة - يتم بعد مناقشتى والحصول على موافقتى مسبقًا، وكثيرًا ما كان ذلك يتم عن طريق استبدال عبارات أخف وطأة بعبارات شديدة الوطأة دون أن يخل ذلك بالمعنى، وكنت أقدر حرج مركز الرجل! لقد جيء به لكى يطفئ مصابيح روزاليوسف، فإذا به يبقيها على مسئوليته الشخصية!
وكنت أفاضل بين إطفاء كل المصابيح أو إطفاء بعضها، فآخذ بأهون الضررين وهذا أسوأ موقف يجد الكاتب نفسه فيه.. وهو موقف المفاضلة بين ضررين وليس موقف المفاضلة بين منفعة وضرر، على أن هذا بطبيعة الحال يجب أن يكون محدودًا بحدود الفاقد من آراء الكاتب من خلال عملية الحذف! فسمعة الكاتب مرهونة بما يقدمه من رأى، فإذا خرج هذا الرأى مبتورًا، لحق هذا البتر سمعة الكاتب ومكانته بين قرائه بالضرورة!
ولكنى توصلت فى ذلك الحين إلى الحل الوسط، فقد رأيت أن الكلمات ما هى إلا وسائل مواصلات، وبمعنى آخر عربات نقل تنقل المعنى من الكاتب إلى ذهن القارئ! وعربات النقل مختلفة الأنواع والسرعات، فإذا تعذر استخدام عربة نقل حديثة يمكن استخدام عربة قديمة، وإذا تعذر استخدام عربة سريعة فيمكن استخدام عربة بطيئة! وعلى الكاتب أن يعتمد على ذكاء القارئ فى فهم ما تحت السطور، والقارئ المصرى ذكى بالخبرة الممتدة على طول قرنين من الحكم الاستبدادى منذ ظهور الصحف والكلمات المطبوعة فى مصر.
على أنه مع موت «مرسى الشافعى» أخذت الأمور تسوء تدريجيًا والتدخل فى الرأى يزداد وتتسع مساحة المطلوب إعادة صياغته من أفكار بكلمات أقل استفزازًا، ولولا ليبرالية «لويس جريس» فى صباح الخير التى كانت متنفسًا لحرية الرأى لأحسست باختناق، ورأيت أننى أخذت أقترب من الحدود التى يؤثر تجاوزها على سمعتى ككاتب من كتاب الرأى.
ورحم الله الجميع!