وليد طوغان
معجزات.. بلا أنبياء
فى الحضارات القديمة معجزات بلا أنبياء.
فى علوم الاجتماع يقال إن الحضارة قرار.. وإن التطور قدرة تسبقها إرادة الشعوب.
فى نظريات التطور، إشارات عدة إلى أنه لما دخل البشر طور الإنسانية، دخلوا بنوعية قديمة من غرائز بقاء النوع، لم يحسن استغلالها إلا شعوب قليلة فى نطاقات جغرافية قليلة على وجه الكوكب، فيما اختفى آخرون بفعل طمس الزمن.
المصرية القديمة أولى الحضارات. أو هى واحدة من أقدم ما عرف الإنسان على الأرض فى بداية التكوين.
معنى الحضارة فى العالم القديم لا يقتصر على المبانى والمعابد؛ إنما هو مرادف لنمط حياة متكامل، يعكس تطور الإنسان فى الفكر والتنظيم والفن وفى العلوم.
تبدأ الحضارات بالفكرة، وتتواصل بالتنظيم، وتصبح لها القدرة على مقاومة الزمن بالفنون، ثم ترتقى بالعلوم.
لماذا تفردت الحضارة المصرية القديمة؟
تفردت، أولًا بنظام اجتماعى متقدم، أسس فيه القدماء أول حكومة مركزية، وأول سلطة مركزية، وأول قانون أساسى لتنظيم مجتمع وليد.
أدت السلطة إلى تقسيم عمل، وأسست واجبات والتزامات العمل طبقات اجتماعية، ولما وضع المصرى القديم المعتقدات، ظهر الكهنة، ثم ظهرت المقدسات والمبادئ والقيم.. قبل أن يبتكر المصرى القديم أفكارًا غير مسبوقة عن الحياة الأخرى وعن الحساب وعن الخير والشر.
تفردت الحضارة المصرية القديمة بالبراعة فى تنظيم الواقع، وبالخيال فى الإيمان بحياة أخرى، بنى لها المصرى القديم المعابد، وتلا لها التراتيل وعقد الصلوات، وعلى أساسها أحسن الإيمان فى الدنيا وفى العمل.
لا أحد يعرف للآن تحديدًا كيف اهتدى المصريون القدماء إلى الأفكار التى طوروا بها الزراعة، والهندسة، وطرق البناء.
لا أحد يعرف كيف اهتدى ذلك الشعب، فى تلك المرحلة المبكرة من مراحل التاريخ إلى تحسين جودة الحياة بنظريات فى الطب، وفى الجراحة، وفى حفظ أجساد الموتى؟
كثير من أسرار الفراعنة لم يُعرف بعد.
وأكثر أساليب الحياة فى مصر القديمة، لم تقف النظريات الحديثة على تفاصيلها حتى الآن.
لكن تظل التفسيرات الأكثر حظًا هى الفرضية التى ترى أن التقدم قرار.
-1-
ما السر وراء التأثير الممتد للحضارة المصرية القديمة، مقارنة بحضارات أخرى، فى حقب زمنية مماثلة؟
السؤال له أكثر من إجابة، ربما أهمها ما وضعته الحضارة المصرية من أسس متعددة لما عرفه العالم الحديث من علوم وفنون وفلسفة وفكر.
أثرت الحضارة المصرية القديمة فى القانون، وفى نظريات العمارة الحديثة، وأثرت فى نظريات الفلسفة، وأثرت حتى فى أشكال الملابس المبتكرة من أحدث بيوت الأزياء فى العالم الحديث.
صنع المصرى القديم عالمًا خاصًا.
أول أسباب امتداد تأثير ذلك العالم، كان فى ما أثبته المصرى القديم من قدرة على تحويل مواد طبيعية صعبة ومضادة وعصية ومترامية على مستوى الجغرافيا إلى أدوات ليّنة فى يد مجتمع منظم.
السؤال الثانى: ما السر فى الحضارة المصرية القديمة على وجه الخصوص الذى جعلها، وبعد ألوف السنين من زمن طويل.. قادرة على الإبهار؟
الإجابة: لأنها تلك الحضارة، ببساطة، ليست مجرد تاريخ، لكنها مجموعة من الألغاز فى زمن سابق، ما زالت تنبض بالإبداع فى زمن لاحق، كأن المصرى القديم قرر وقدر أن يتجاوز بزمنه ومكانه حدود الزمان والمكان.
للآن حضارة المصريين القدماء غامضة فى جوانب منها غموضًا يثير الفضول.
ما زال هناك مزيد من الألغاز لم يجد حلولًا، وما زال كثير من القدرات لم يجد تفسيرًا.
لكن المؤكد، هو ما ألفه المصرى القديم من معادلة حياة من نوع خاص، تداخلت فيها موارد وظروف، وقدرة مع إيمان وصبر، فخلقت زمنًا لا يُنسَى، وأبدعت إنتاجًا لم يهزمه الوقت ولا استطاعت أن تغلبه عوامل تعرية لم يجابهها أحد من قبل أو من بعد.. إلا وهزمته.
-2-
ابتكر المصرى القديم الكتابة.. فابتكر التاريخ، ووضع أول ساعة من ساعات الوقت على وجه الزمن.
ابتكار الكتابة واختراع الحروف، لم يكن حدثًا هينًا.
كان فتحًا أول من نوعه، ونقطة تحول فى تاريخ البشرية.
الكتابة ذاكرة منقولة، يرتبط بها تاريخ الأجداد والأجيال السابقة ونصوص الكتب المقدسة وتنزل بها الأحلام إلى أرض الواقع، وترتفع معها الدعوات إلى الآلهة.
ليست الكتابة مجرد وسيلة للتواصل؛ إنما هى أداة لتوثيق المعرفة، ونقل الحضارة على خطوط الزمن.
وثق المصرى القديم الأحداث والطقوس والقوانين بحروف كانت هى الأقدم فى التاريخ، وقبل سنوات قليلة من ابتكار السومريين للكتابة المسمارية.
بالقدرة على الخيال، طور المصرى القديم الكتابة والحروف، وعرف الديموطيقية والهيروغليفية وصولا إلى القبطية التى ساهمت فى تطور الأبجديات فى العالم الحديث.
أكدت الكتابة سطوة الدولة واستقرار المجتمع القديم. سجلت الكتابة عوائد المحاصيل، فابتكر المصريون القدماء العقود، ووضعوا القوانين، وأصدروا الاحكام، والأكثر أهمية أنهم نقلوا القيم عبر الأجيال، وتداولوا الصلوات من جيل لجيل.
ابتكار الكتابة كان هدية كبرى للعالم؛ إذ إنها أظهرت لأول مرة أن الفكر قابل للتواصل بين البشر فى مراحل التاريخ، وأن المعرفة قابلة للتناقل مهما كانت الجغرافيا.
لذلك، فإن الهيروغليفية ليست مجرد رموز على جدران المعابد، بقدر ما هى بوابة عبور للمعرفة من الماضى إلى الحاضر.
يفكر البشر باللغة.
بلا كتابة، تتوقف القدرة على الابتكار.
لذلك، فإن المصرى القديم لما ابتكر الكتابة، كان قد اخترع الزمن.
-3-
أبهرت مصر العالم بافتتاح المتحف الكبير.
بلغة التكنولوجيا الحديثة، كان حفل الافتتاح «تريند» الساعات الماضية.. و«تريند» مستمرًا للقادم.
سيطرة كاملة للاحتفال على صحافة العالم شرقًا وغربًا.
«أسوشييتد برس» وصفته بالأبهة.
قالت إنه حدث استثنائى فى تاريخ الإنسانية.
«الإندبندنت» البريطانية عرفته بالمتحف الأكبر على ظهر الكوكب متجاوزًا بمقتنياته ما لدى اللوفر الفرنسى.
حتى ليلة قبل افتتاح المتحف الكبير كان اللوفر هو ملك المتاحف الأثرية فى العالم.
«بى بى سى» كانت منصفة هذه المرة، عندما وصفت المتحف الكبير بأبرز المعالم الثقافية فى العالم الحديث.
قليل ما تنصف البى بى سى، لكن الحادث والحديث أقوى من أى محاولة للغلوشة. الإبهار لم يكن فقط فى تفاصيل الحفل، بقدر ما كان فى الرسالة العميقة التى حملتها المناسبة.
الرسالة أن مصر رقعة نور حضارية بما قدمته للإنسانية.
كمُن الإبهار أيضًا فى مزج عبقرية الحضارة مع أحدث تقنيات الفنون المعاصرة، فى تجربة بصرية ووجدانية غير مسبوقة.
وصف رئيس الدولة المصرية عبدالفتاح السيسى المتحف بأنه «مدرسة للحكمة»، فى مصطلح جمع حضارة الماضى بزخم الحاضر، وربط بين الفنون والعلوم، وواصل بين محطات الزمن وذكرى الأجداد فى رسالة موجزة للإنسانية.
كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسى كانت بيانًا فلسفيًا وضع المتحف فى الإطار المقصود منه.
المعنى أن عبقرية الأجداد هى رصيدنا، والسلام هو طريقنا، والتعاون هو سلاحنا فى بناء المستقبل.
افتتاح متحف بتلك الضخامة والفخامة تجديد للتأكيد على تصدُّر مصر المشهد الحضارى مهما طال الزمن.. أو كثُرت الخطوب.