
رشاد كامل
الرئيس حافظ الأسد يسأل أحمد بهاءالدين:
لو أنت حاكم عربى ماذا تفعل لمعالجة مشكلة الصحافة؟!
أسعدنى الحظ بمقابلة ومحاورة نجوم وأساتذة الصحافة المصرية وعلى رأسهم بطبيعة الحال الأستاذ والمفكر الكبير «أحمد بهاءالدين» أول رئيس تحرير لمجلة صباح الخير وتشرفت فيما بعد سنة 2003 بأن تشرفت بتولى هذا المنصب.
وأسعدنى الحظ عندما أعددت كتابى «أحمد بهاءالدين وروزاليوسف مقالات لها تاريخ» بتكليف من المهندس عبدالصادق الشوربجى رئيس مجلس إدارة روزاليوسف وقتها.
حرصت فى الكتاب (410 صفحات) أن أعيد نشر ما كتبه الأستاذ بهاء فقط فى مجلتى روزاليوسف وصباح الخير واستبعدت -لضيق مساحة الصفحات- عشرات المقالات الممتعة والمهمة التى نشرها فى مطبوعات أخرى سواء فى مصر أو خارج مصر مثل جريدة الشرق الأوسط ومجلة المستقبل.
واحد من هذه المقالات المهمة وكان عنوانه «جزيرة الصحفيين العرب» وقد أعادت جريدة المساء نشره فى عدد الخميس 21 يناير 1982 و..

المقال يروى قصة لقاء وحوار طويل دار مع الرئيس السورى «حافظ الأسد» وفى المقال كتب الأستاذ «بهاء» يقول:
كان ذلك منذ شهور بعيدة، وكنا قد شكلنا قبلها مجموعة من المشتغلين بهموم الأمة العربية مؤسسة لدراسات الوحدة العربية طابعها علمى وغايتها إعادة الاعتبار «العلمي» إلى كلمة «الوحدة العربية» وقررنا أن تذهب وفود منا إلى رؤساء الدول العربية لشرح فكرة المؤسسة وأنه لا علاقة لها بالسياسة وأن غايتها البحث العلمى فقط.
وكلف زملاؤنا عددا منا بمقابلة الرئيس «حافظ الأسد» الذى تفضل بتحديد موعد، فسافرنا إلى «دمشق» المرحوم «شفيق أرشيدات» رئيس اتحاد المحامين العرب (الأردن) الأستاذ «جاسم القطامي» (الكويت) الدكتور «خير الدين حسيب» (العراق) وكاتب هذه السطور:
وقابلنا الرئيس «حافظ الأسد» بعد الغروب بقليل وكانت هذه أول مرة أقابل فيها الرئيس «الأسد» «شخصيا».. ومع ذلك فقد تفضل وتوجه أولا إليّ بالحديث والسؤال عن أحوالى.
ولماذا أكتب أحيانا؟ وانقطع أحيانا ثم عن بعض هموم الكتابة والصحافة ثم سألنى عن خبر نشر فى إحدى الصحف العربية عن قرب صدور قانون جديد للصحافة وقوانين الصحافة بوجه عام.
ولم يكن هذا سبب اللقاء وقلت للرئيس الأسد ضاحكا:
- فخامة الرئيس - اسمح لى أن أقول الناس لم تعد تهتم بأخبار هذه القوانين.. القوانين فى بلادنا العربية كلام جميل على الورقة ولكن السلطة فى واقعها لا تتغير وآخر شيء سيرضى أى حاكم «بالتفريط فيه» هو الصحافة!
واستقبل الرئيس الأسد تعليقى الجاد بابتسامة لم تتغير وبطريقة توحى بالرغبة فى المناقشة، وبعد تبادل بعض الحوار قال لى:
- طيب من السهل دائما الحديث من خارج موقع المسئولية ولكن لو إنك حاكم عربى ماذا كنت تفعل لمعالجة مشكلة الصحافة؟ ما هو القانون الذى تصدره؟!
وقلت على الفور: الحل عندى جاهز يا فخامة الرئيس وبسيط وأقوله بعد دراسة!!
واستطردت قائلا: أيام حكم الكولونيلات فى اليونان خصصوا جزيرة من جزرهم الكثيرة للمعتقلين
السياسيين، وكانت صحف أوروبا تهاجم «الكولونيلات» على سياسة الاعتقال والسجن، وتنشر صورا لهم فى الجزيرة، وقد لبسوا المايوهات وتمددوا على الشاطئ الجميل يسبحون ويتشمسون ويتناقشون طبعا!
وكنت أحسدهم على هذا المعتقل الجميل!

وهكذا راح الأستاذ بهاء يشرح ما يقصده للرئيس السورى فقال:
- واقتراحى أن تستأجر جامعة الدول العربية جزيرة صغيرة من جزر اليونان، وأن يوضع فيها كل الصحفيين العرب من المحيط إلى الخليج.. سنة أو ثلاث أو خمس سنوات حتى تحل الأمة العربية مشاكلها، ثم تطلق سراحهم!
وأغرق الرئيس «الأسد» فى الضحك وقال: وأى قوة تجمعهم كلهم إذا وجدنا الجزيرة؟!
قلت: لقد شرفنى زملائى فى نقابات الصحافة العربية بانتخابى رئيسا لاتحاد الصحفيين العرب ثمانى سنوات متصلة، وقد استقلت من هذه المهمة حين وجدت أن حرية العربية تتآكل فى عهدى السعيد وسجلت ذلك فى وثائق الاتحاد، فلو وجدتم الجزيرة فأنا كفيل بالحصول على موافقة كل الصحفيين العرب على الذهاب إلى هذا المنفى الجميل!
وضحك الرئيس الأسد وأنا أستطرد قائلا: أليس الصحفيون هم سبب كل المشاكل؟! إذا قامت مظاهرة فلأن الصحفيين هجيوا الخواطر! إذا فشلت مباحثات فلأن الصحفيين أذاعوا الأسرار! إذا تشاتم الرؤساء العرب خلال الصحفيين! تصالحوا بعد ذلك على أساس أن الصحفيين هم الذين أساءوا الأدب! إذا وعد وزير الناس بمليون دجاجة ولم يظهر الدجاج فالصحفى معرض للفصل لأنه أساء التقدير.
إننا نعرف أن الصحافة فى العالم الثالث كله لا يمكن أن تكون حرة كصحف أمريكا مثلا.. وأنا شخصيا لى تحفظات على ذلك ولا أقبل به، ولكننا نريد بعض الكرامة والإنصاف، لماذا لا يفصل الوزير صاحب المليون دجاجة مرة مع الصحفى الذى صدقه ونشر كلامه ولو مرة من باب المساواة الرمزية.
والناس أيضا يضعون كل مشكلة على عاتق الصحفيين، كل بلد يعلن أن صحافته حرة تماما، ولكن كل صحفى يمارس حريته فى نقد بلد آخر فقط! كل بلد فيه عشرات أو مئات من الصحفيين، ولكن كلهم ينوبون عن عشرات الملايين ويوفرون عليهم الجهد ويتحملون عنهم الذنب، وإذا أثرى صحفى فهو نصاب وليس من حقه ما هو من حق أى رجل من رجال المال والأعمال «الأعمال بمعناها الواسع» وإذا ظل مفلسا - مثلى - فإنه يقبض على مجرد كرامته بصعوبة، وإثم القابض على الجمر وعيب عليه أن يصرخ!
لذلك كله، فإننى أريد أن أريح حكوماتنا وجماهيرنا على السواء منا، ربما يثبت أن وجودنا هو المشكلة، وأن الحياة بغيرنا تصفو وتهدأ، فقط أشترط أن يكون منفانا أو معتقلنا فى جزيرة يونانية جميلة!
ولست فى حاجة إلى وصف الجو الضاحك لهذا الحديث وقد كنت جادا وكنت هازلا وكنت أريد الانتقال بالحديث إلى ما أتينا من أجله!
ولكن الرئيس «الأسد» أمسك بتلابيبى وطاردنى فى حديث مفصل عن قضية الصحافة فى وضعها العام والأساسى وما أسمح لنفسى هنا بنشره هو كلامى وأساسه أن الصحف تمر بمشكلة فى العالم كله، فى البلاد الشيوعية هناك صحافة الرأى الواحد النازلة من السلطة إلى الناس، وكلنا لا نريدها، فى البلاد الرأسمالية الصحف مملوكة لملوك المال والصناعة، وقد بدأت الصحف الكبرى تفلس بعد أن ذبحها التليفزيون، ثم إضرابات العمال، وباتت الصحف تباع وتشترى بمطابعها ومحرريها وكتابها كالقطيع من مالك إلى مالك!
والمالك شركة بترول مثلا كإنجلترا، أو شركات غزل ونسج كفرنسا، أو شركة سيارات كإيطاليا.. وهذا ليس وضع الصحافة الحرة!
وقد حسبت - وقتها - أننى بعد أن نقلت الموضوع من التبسيط الشديد - باستئجار الجزيرة - إلى التعقيد الشديد بطرح القضية مهنيا وعربيا وعالميا سوف أعود بالجلسة إلى الغرض الذى جئنا من أجله.. ولكن الرئيس «الأسد» أبدى اهتمامًا أكثر واستجوبنى استجوابا دقيقا فى كل ما جاء ذكره من قضايا تطرح نفسها على موضوع الصحافة فى العالم كله!
ولست أنوى أن أغرق القارئ هنا فى هذه التفاصيل، ولكن الصحافة وحريتها وعلاقتها بالسلطة من جهة وبالمال من جهة أخرى وبالثورة التكنولوجية من جهة ثالثة، كلها قضايا صدرت فيها مئات الكتب فى أنحاء العالم، ولا حل لها بعد!
وأخذ الأستاذ «بهاء» يشرح ويروى عشرات الأمثلة، ثم يختتم مقاله بالقول:
كيف يمكن كفالة الرأى دون احتكار ودون فوضى؟! وكيف كان صاحب القضية من خمسين سنة يصدر جريدة بمائة جنيه، ولكن الآن صار إصدار جريدة معناه ملايين الجنيهات، وأين لأهل الرأى بالملايين؟!
واستمر الحديث دون أن ينتهى مع الرئيس الأسد حتى الثانية عشرة ليلا!
وتفضل فاقترح أن نستأنف الحديث على عشاء غير مرتب! وأردت أن أثبت له أن الصحفيين يمكن أن يكونوا مهذبين فاعتذرت مع زملائى الذين لم تتح لهم فرصة الحديث فيما جئنا من أجله، وقلت للرئيس وهو يضحك:
- حقا إن استئجار جزيرة يونانية هو أسهل الحلول.. على الأقل إلى أن يوجد حل آخر!
وتوجه «بهاء» بسؤال إلى القارئ: هل عند أحد منكم حل آخر؟!