
رشاد كامل
حكايات صحفية
أم كلثوم ومصطفى وعلى أمين ضحية طالب جامعى!
عرفت الشاعر الكبير الأستاذ «فتحى سعيد» وسعدت بالحوار معه واستمتعت بقراءة دواوينه الشعرية «مسافر إلى الأبد» و«مصر لم تنم» و«إلا الشعر يا مولاى»، ونشرت حواره فى مجلة «الوادى» التى كانت تصدر من مؤسسة روزاليوسف والجانب السودانى.
وما زلت أذكر الإهداء اللطيف الذى كتبه عنى بتاريخ 3 نوفمبر سنة 1985 قال فيه: العزيز رشاد كامل واحد من فرسان الصحافة القادمين مع تحياتى واحترامى وكان الإهداء على الصفحة الثالثة من كتابه الثرى الممتع «فى بلاط الصحافة والأدب» (190 صفحة)..

ومن أجمل حكايات الكتاب ما رواه عن سيدة الغناء العربى وقد أطلق عليه «جيوكاندا طماى الزهايرة» ذكريات فى ذكراها وملابسات مقابلته لها وجلس إليها ذات ليلة لا تنسى منذ أكثر من عشرين عاما - وقت كتابة هذا الفصل من كتابه ولذلك حكاية تحكى!
■ ■ ■
كان «فتحى سعيد» وقتها طالبا بجامعة الإسكندرية فى مطلع الخمسينيات من القرن العشرين - حيث أعلنت جريدة الأخبار عن مشروع لها لأول مرة اسمه «ليلة القدر» ملخصه أنه إذا انشقت لك الطاقة فى ليلة القدر ماذا تطلب؟ قل ونحن نحقق لك أمنيتك؟!
ويسترسل فتحى سعيد فيقول: تعجبت للفكرة.. أية دعاية تلك؟ وهل ذلك صحيح؟! وشغلنى الأمر طوال رحلتى اليومية بقطار الصحافة فى الصباح من دمنهور ، حيث أقيم وقطار العودة آخر الليل من الإسكندرية حيث أدرس وقلت لنفسى إن كانت دعاية للجريدة فلأكتب لها وأتحقق ولكن ماذا أطلب لو انشقت السماء ورأيت ليلة القدر فعلا؟! هل أطلب «الستر» كما طلبت جداتنا فى القرية؟! هل أطلب حلا لمشاكلى العائلية مثلا: معاشا لوالدى الشيخ الذى خرج بلا معاش! هل أطلب عملا بالعاصمة يعيننى على هواية الكتابة والنشر وإكمال الدراسة وأعباء الأسرة.. لا هذه مشكلات خاصة تمس الكبرياء ولا تحل بالدعاء فماذا أطلب إذن؟!
لجأت لأقرب مكان على شاطئ البحر أتطلع إلى بساط الزرقة وأراقب الأمواج وهى تتسابق موجة وراء موجة وكأنها تتغنى بالمنظر الذى أراه..
وهبطت الفكرة لأتصور نفسى عاشقا متيما يعانق خصر الحبيبة على شاطئ البحر ويرنو للموج الأزرق فيه وفى عينيها ويحلم أن تغنى لهما أم كلثوم.. ودبجت خطابا بهذا المعنى وأفرغت فيه كل ما أملك من بلاغة وعشق!

ومر عام ونسيت الأمر تماما حتى وصلت برقية تدعونى أنا وخطيبتى لسماع ولقاء «أم كلثوم» وقضاء ثلاث ليال فى القاهرة على حساب «أخبار اليوم»..
وتذكرت الحكاية لقد انطلت الحيلة وأوقعت نفسى فى ورطة وأسقط فى يدى وعرضت الأمر على بعض زميلاتى فرفضن، إنها فضيحة مصورة ستظهر فى الصحف ولسنا مخطوبين ولا عشاقا.. ولو بهرتنا الفكرة وفعلنا فكيف نواجه أولياء الأمور وإذاعة الجامعة؟! من أين لى بخطيبة أو حبيبة إذن؟ وتقاعست عن الذهاب وفى آخر لحظة قلت لشقيقتى:
ما رأيك لو سافرنا القاهرة الآن ودعوتك لسماع «أم كلثوم» الليلة؟! وفى لحظات ركبنا القطار وشرحت لها الحكاية ووصلنا قبل موعد حفلها بدقائق.. وفى مبنى الأخبار وجدت «وجدى قنديل» فى انتظارنا.
فقد كلفه «على أمين» أن ينتظر حتى موعد آخر قطار يصل من دمنهور للقاهرة وأخذنا فورا إلى سينما «قصر النيل» حيث استقبلتنا كوكب الشرق ، وعلى الفور كعروسين!!!
■ ■ ■
ويعترف الأستاذ «فتحى سعيد» أنه نبه على أخته ألا تتكلم كثيرا وأن تترك له الإجابات وأن تكتفى بذكر اسمها واسم الأب وتغفل اللقب حتى لا يفتضح أمرهما، وأن يمثلا دور العروسين! ويمضى قائلا:
قلبت خاتما فى يدها فبدا «كدبلة الزواج» واستعرت «دبلة ذهبية» من صديق سبق له الزواج حتى تنطلى الحيلة أكثر..
وفى غرفتها استقبلتنا «كوكب الشرق» وبدت لى للوهلة الأولى كأنها «الهرم الرابع» فى تاريخ مصر..

قامة مهيبة شامخة كأنها شجرة خضراء وارفة الظل وروح ناصعة شفافة.. وانجذاب يشدك إليها من الوهلة الأولى وموكب فخم من الأضواء والورود حولها فتحت ذراعيها وقالت:
- أهلا بالعرسان تعالى لأقبلك يا عروسة! وقبلت عروستى أى أختى والتفتت وقالت:
- تعالى لأقبلك يا عريس!
وفرحت واندفعت إلى ذراعيها المفتوحتين مغمضا عينى منتظرا قبلتها التاريخية مراقبا عدسات التصوير وهى تسجل القبلة الخالدة وضمتنى إلى صدرها برفق وقالت ضاحكة:
- أنت صدقت برضه إنى هابوسك؟
ودوت الضحكات وجلسنا ودار حوار طويل - كيف تعارفتما؟ ما هى دراستك يا عروسة وأى جامعة ستدخلين؟! وما رأيكما فى الحب والزواج؟ وماذا تريدان أن تسمعا؟
كل ذلك وعروستى «المزعومة» تنظر إلى وتتلعثم فى الإجابات وتنتظر منى العون وحين أتكلم تشخط فى أم كلثوم:
لا تتكلم أنت. أما أسألك ترد «أريد أن أسمعها هيه»!!
وكذبنا بعض أكاذيب بيضاء والتقطوا لنا عدة صور تذكارية وجلسنا فى أول صف.. بجوار «أحمد رامى» وغنت لنا ما طلبناه من أغان، وبين الوصلات دعتنا إليها وطلبت لنا شربات وواصلنا الحديث.
وانتهى الحفل وعيون الحاضرين تتابعنا وتحسدنا على رؤية أم كلثوم مرتين فى ليلة واحدة.
وتحت عنوان «من أخبار اليوم إلى مجلة لايف - يكمل الأستاذ والشاعر فتحى سعيد ما جرى بعدها فيقول:
وفى الصباح التقينا بعلى ومصطفى أمين.. قامتان فارعتان ووجهان توءمان لا تفرقهما عن بعضهما.. وسجائر «اللاكى ستريك» والغرفة الفاخرة.. وكانت أول مرة أراهما فيها أو أدخل دار صحفية فى حياتى.
ودار حوار طويل «كيف استقبلتكما كوكب الشرق؟ هل رحبت بكما؟ ماذا غنت لكما؟ لماذا طلبتما هذه الأغانى بالذات؟ ما النكتة التى قالتها لكما؟! كيف كانت الرحلة؟ أى فندق تحبان النزول فيه؟ ما هى هوايتكما؟ ما رأيك فى صحف الدار؟! لماذا لا تتكلم العروس وتتكلم أنت؟ دعها تحكى.. هل أنت فلاح؟
اجلس مع «وجدى قنديل» وقل له حكايتكما من البداية للنهاية..
أنت محظوظ ستظهر صورتك مع عروسك فى صحف العالم ، فقد تصادف وجود «هنرى لوس» ملك الصحافة فى العالم وصاحب مجلات «لايف» و«تايم» و«فورشن» فى القاهرة ولم يصدق أن هناك من يطلب سماع أم كلثوم فى ليلة القدر! وسينشر الموضوع فى مجلة «لايف» الشهيرة التى توزع ملايين النسخ!
ويسترسل فتحى سعيد قائلا:
حوار طويل سريع الكلمات يديره الأخوان التوءمان بلباقة وكأنهما محققان ينتزعان منك اعترافا ما وبسرعة مائة سؤال كأنها اختبار ذكاء.. مع أكواب الليمون والقهوة المتتابعة.
وعدنا من القاهرة وفى رأسى دوار وفى الجعبة ذكريات!
ويحكى فتحى سعيد قصة قصيدة كان المفروض أن تغنيها أم كلثوم قصيدة مزيجا من «العشق والصوفية والوجد» ولحنها بالفعل الموسيقار الكبير «رياض السنباطى» لكن المرض داهم كوكب الشرق وترحل بعدها أم كلثوم ولم يتحقق حلم الشاعر «فتحى سعيد»!