
رشاد كامل
إنجلترا تضع روزاليوسف وإحسان فى القائمة السوداء!
لم يتوقع إحسان عبدالقدوس الهدية التى كانت فى انتظاره بعد خروجه من السجن بسبب مقاله الذى طالب فيه بطرد السفير البريطانى «لورد كيلرن» من مصر الذى جاء إليها سنة 1934.
كانت السيدة فاطمة اليوسف صاحبة المجلة ورئيسة تحريرها هى صاحبة الهدية والمفاجأة، فقد قررت تعيينه رئيسا للتحرير وأقامت له حفلة كبيرة سمحت له خلالها أن يدخن لأول مرة أمامها.
ولم تكتف بذلك، بل قررت أن تنشر الخبر على قراء مجلتها والرأى العام وكتبت مقالا بهذه المناسبة ونشرته فى المجلة بعنوان «عشرون عاما فى الانتظار».

ولدى رئيس التحرير.
عندما اشتغلت بالصحافة وأسست هذه المجلة كان عمرك خمس سنوات وقد لا تذكر أنى حملت العدد الأول ووضعته بين يديك الصغيرتين وقلت لك: هذا لك!
ومرت عشرون عاما قضيتها وأنا أراقب فى صبر وجلد نمو أصابعك حتى تستطيع أن تحمل القلم، ونمو تفكيرك حتى تستطيع أن تقدر هذه الهدية التى كونتها بدمى وأعصابى خلال سنين طويلة لتكون اليوم لك. والآن قبل أن أضعك أمامى لأواجه بك الناس، دعنى أهمس فى أذنيك بوصية أم إلى ابنها ووصية جيل إلى جيل:
مهما كبرت ونالك من شهرة لا تدع الغرور يداخل نفسك، فالغرور قاتل.
كلما ازددت علما وشهرة فتأكد أنك ما زلت فى حاجة إلى علم وشهرة.
حافظ على صحتك، فبغير الصحة لن تكون شيئا.
مهما تقدمت بك السن لا تدع الشيخوخة تطغى على تفكيرك، بل كن دائما شاب الذهن والقلب وتعلق حتى آخر أيامك بحماسة الشباب.
حارب الظلم أينما كان، وكن مع الضعيف على القوى، ولا تسأل عن الثمن.
حاسب ضميرك قبل أن تحاسب جيبك ولعلك فهمت.
كن قنوعا، ففى القناعة راحة من الحسد والغيرة.
ثق أنى دائما معك بقلبى وتفكيرى وأعصابى فالجأ إلىّ دائما.
وأخيرا.. دع أمك تسترح قليلا. «روزاليوسف 24 أكتوبر 1945»

فى كتاب الأستاذ «محمود مراد» الذى صدر عام 1980 وهو «اعترافات إحسان عبدالقدوس: الحرية والجنس»، كواليس مثيرة حول تجربته كرئيس تحرير، حيث اعترف قائلا:
كنت أصغر رئيس تحرير -كان عمرى 25 سنة- وإنما إحساسى بأنى رئيس تحرير لم يكن موجودا من حيث السلطة أو التميز لأننى أساسا كنت فى المجلة ابن صاحبتها، أى أن عملى لم يكن وظيفيا ولم أكن أنا نفسى موظفا نال ترقية أو سلطة. كما أننى كنت من قبل أمارس سلطة رئيس التحرير.
كانت أسرة «روزاليوسف» لا تضم أكثر من عشرة أشخاص، وهذا لم يشعرنى بالرئاسة، لكن المنصب أعطانى إحساسا أكبر بالمسئولية المباشرة، وهى أنى أواجه الناس -جماهير القراء- بروزاليوسف كلها، بمسئوليتى عنها نجاحا أو فشلا.
لقد كانت هذه المسئولية من قبل تنسب لوالدتى أو لرئيس التحرير الذى تعينه، أما بعد تعيينى فإن هذه المسئولية صارت تقع على عاتقى وحدى، ومن هنا بذلت الكثير للقيام بجهود مضاعفة لتطوير نفسى وتطوير المجلة.
وأستطيع القول إنه بعد عام من إسناد المسئولية لى ظهرت نتائج التطور واضحة على صفحات المجلة، وتأكد التغير بعد عامين وامتنع الناس عن القول بأنى «ابن الست» وصاروا يقولون «إحسان عبدالقدوس».. هذا أكبر دوافعى للعمل والتقدم».
وتستمر «روزاليوسف» تحت قيادة رئيس تحريرها الشاب فى مواجهة السياسة البريطانية والسفير لورد كيلرن وترسم فى عدد 4 أغسطس 1945 رسما كاريكاتيريا للسفير البريطانى وكان ذلك فى زمن حكومة إسماعيل صدقى باشا وتتم مصادرة ثمانية عشر ألف نسخة ومنع طبع باقى الكمية!
أكثر من ذلك أن إنجلترا وضعت اسم «روزاليوسف» وإحسان عبدالقدوس فى القائمة السوداء، وحظر عليهما دخول تلك البلاد.
وتنشر «روزاليوسف» تفاصيل ذلك بقولها:
منذ أسابيع حاول الأستاذ إحسان عبدالقدوس رئيس تحرير هذه المجلة أن يسافر مع «صدقى باشا» رئيس الوزراء إلى لندن، فرفضت السفارة البريطانية فى أول الأمر السماح له بدخول البلد الحليف الصديق المرتبط معنا بمعاهدة لم تكن درجة الحب والغرام فى نصوصها كما ينبغى فدخل الطرفان فى مفاوضات جديدة لرفع درجة لهاليب هذا الحب وذاك الغرام!
وقال المسئولون لرجال السفارة الأفاضل، ولكن رئيس تحرير روزاليوسف سافر فى رحلة صحفية مع رئيس الحكومة فلماذا تمنعونه؟
وهنا هرش أحد المسئولين الإنجليز رأسه طويلا ثم قال:
إن السفارة قد توافق لسفر رئيس تحرير روزاليوسف إذا ضمنه رئيس الوزراء!
كأنما أصبح الصحفى مجرما يحتاج سفره إلى ضمان وإلى استخراج فيش وتشبيه وصحيفة سوابق والوطنية فى مصر اليوم أصبحت سابقة السوابق!
وأخيرا بعد مباحثات ومفاوضات تنازلت السفارة عن شرط الضمان وكان السفر.
وأخيرا خرج لورد كيلرن من مصر ويغادرها يوم 10 مارس 1946 وقال للصحفيين يومها: إن مصر هى وطنه الأصلى ومركز حياته العامة والخاصة خلال 12 عاما.
وأشارت «روزاليوسف» إلى أن السفير كلف بمهمة ستأخذه إلى فلسطين والهند وأخيرا إندونيسيا، وأنه استقال لخلافه مع وزارة الخارجية البريطانية، ولكنه اقتنع بسحب الاستقالة.
وتحت عنوان «أما وقد ذهب»، كتبت روزاليوسف مقالا قالت فيه:

«لم يكن اثنان يختلفان فى أن بقاء «اللورد كيلرن» فى منصبه ليس من صالح القضية المصرية ولا مما يشرف الكرامة المصرية، وكنا جميعا ننتظر فى صمت أن تنتهز حكومة لندن فرصة انتهاء مدة خدمته وتنحيه من منصبه، ولكن حكومة لندن لم تنحه، وظل «اللورد كيلرن» بيننا ضيفا مكرما عزيزا.
وكنا نعلم أن هناك من يسعى لإبقائه فى منصبه لأن جنابه -أى اللورد كيلرن- استطاع أن يكسب صداقة وثقة الشعب المصرى والزعماء المصريين بدليل أن أحدا منهم لم يعترض على سياسته، وأن حادث 4 فبراير مر بهدوء فلم يحتج الشعب على السفير، وإنما احتج على «النحاس باشا».
كان احتجاجه عليه لدوافع حزبية لا وطنية، وبدليل أن الزعماء الذين لم يشتركوا فى الحادث، أظهروا رضاهم عن اللورد بعد أن تولوا الحكم!
ومضى مقال روزاليوسف يقول فى صراحة ودون مواربة:
إن السفير البريطانى لا يتحمل وحده وزر سياسته، وإنما يتحمل الوزر معه كل من وافقه عليها من زعمائنا وساستنا الأفاضل.. وكل ما نرجوه أن يعترف هؤلاء الزعماء والساسة بخطئهم حتى لا يتكرر هذا الخطأ مرة ثانية مع سفير آخر».
باختصار شديد كما يقول الكاتب الكبير «محسن محمد»: حكم «اللورد كيلرن» المندوب السامى ثم السفير البريطانى، فيما بعد، مصر 12 سنة، دون أن يجرؤ مصرى واحد على أن يهاجمه علنا أو بالاسم، لكن «إحسان عبدالقدوس» كان الصحفى والسياسى المصرى الوحيد الذى هاجمه فى مقال شهير فى روزاليوسف والحرب العالمية الثانية مشتعلة، و«ونستون تشرشل» رئيس وزراء بريطانيا يؤيد سفيره فى مصر فى كل شىء حتى فى عزل «فاروق» ملك مصر، ومن هنا كان هجوم «إحسان عبدالقدوس» وهو بعد شاب صغير يعتبر انتحارا سياسيا.
ولكن إحسان عبدالقدوس وهو يستهل حياته الصحفية بهذا المقال الجرىء، لم يعبأ بشىء وهو يواجه أعتى العواصف من حكومة مصر وملك مصر والإنجليز فى عنفوان قوتهم وجبروتهم.
وللحكاية بقية!