
رشاد كامل
حكايات صحفية
مكافأة إحسان عبدالقدوس تعيينه رئيسًا للتحرير!
خرج إحسان عبدالقدوس «25 سنة» من السجن بسبب مقاله عن لورد كليرن ليجد فى انتظاره أكبر مفاجأة صحفية فى حياته فقد قررت والدته السيدة «روزاليوسف» تعيينه رئيسًا للتحرير بدلًا منها، وكما كتبت فى ذكرياتها عندما خرج عيّنته رئيسًا للتحرير وأقامت له فى هذه المناسبة حفلة كبيرة سمحت له خلالها أن يدخن أمامها للمرة الأولى.
وتتذكر هذه الحكاية الطريفة قبل حصول إحسان على شهادة ليسانس الحقوق قبل سنوات فتقول:
«فرغ إحسان من امتحان الليسانس وعاد من الكلية مسرعًا قبل أن تظهر النتيجة فاحتل مكتبًا فى المجلة وأعلن نفسه رئيسًا للتحرير ولما اعترضت على ذلك قال لى:
أمال أنا كنت باتعلم عشان إيه؟ مش علشان اشتغل بدالك وأنت تستريحى؟
وحاولت أن أقنعه بأنه لابد له من بعض التمرين قبل أن يرأس تحرير المجلة، ولكنه أبى ورفض أن يعمل فى روزاليوسف إلا رئيسًا للتحرير، فذهب إلى «التابعى» الذى كان يصدر آخر ساعة فالتحق بها».

ويروى إحسان قصة تعيينه رئيسًا للتحرير فيقول:
«قالت لى أمى وهى تشير إلى مكتبها باعتبارها رئيس تحرير المجلة:
- اقعد يا إحسان على مكتبك!
ولم أفهم ماذا تقصد، أن مكتبى كسكرتير تحرير روزاليوسف يقبع فى تواضع فى حجرة أخرى، والمكتب الذى تشير لى والدتى بالجلوس إليه هو مكتب رئيس التحرير أى مكتبها!
ولأول مرة منذ تخطيت مرحلة الطفولة ترى عيناى حنان الأمومة ورقتها تسيلان فى عذوبة من عينى «فاطمة اليوسف» المرأة القوية على نفسها وعلى من حولها، واقتربت منى ببطء وكأنها تؤدى طقوسًا دينية ذات رهبة وجلال، وسحبتنى من يدى المرتجفة وأجلستنى على مكتبها، ثم قبلتنى قبلة حب واستقبلها قلبى قبل أن يحس بها جبينى وقالت لى وشفتاها ترتجفان بانفعال غلبها ربما لأول مرة فى حياتها: - دى مجلتك.. ولازم تتحمل مسئوليتها يا إحسان.. أنا من حقى ارتاح بقى!.
وأفقت من ذهولى على صوتها وقد بدأ يسترد نبرته القوية العاتية وهى تستطرد:
- وما تنساش إنك اتخرجت خلاص من المعهد اللى اتخرج فيه كل رؤساء تحرير روزاليوسف قبلك!.
وساعتها فقط صدقت أن أمى جادة فيما قالت وأننى أصبحت فعلا أصغر رؤساء التحرير سنًا فى مصر لأننى عينت بقرار السيدة فاطمة اليوسف خلفًا لها فى رئاسة تحرير روزاليوسف التى شاء القدر الواعى وربما المصادفة البحتة أن يمر كل رؤساء تحريرها بتجربة السجن من أول الدكتور «محمود عزمى» ثم «التابعى» إلى أمى فاطمة اليوسف نفسها، وقد كانت أول صحفية مصرية تدخل السجن!».
ويتذكر إحسان ما جرى بعد ذلك بقوله:
اتصل «النقراشى» بوالدتى يعتذر لها قائلا:
-معقول يا «روز» ابنك إحسان يرفض قبول المفاوضات مع الإنجليز وهم يعلمون مدى الصداقة التى تربطنى بك وبالمجلة، هذا معناه فشل المفاوضات، ومن أجل ذلك كنت مضطرًا لأن أحبسه!.
اعتذر النقراشى - والكلام لإحسان - وكان فى الحقيقة من الشخصيات الوطنية التى تتمتع بالنزاهة والقوة.. لكننى فى الحقيقة لم أكن مقتنعًا به كرجل سياسى.
ويتذكر إحسان عبدالقدوس فى أحد حواراته قائلا:
«لم تعترف أمى بكل ما كتبته فى مجلتها من قبل ولم تعترف بشهادة الليسانس التى حصلت عليها عقب تخرجى من كلية الحقوق.. لم يكن هذا كافيًا.. لكى تثق فى أن ابنها أصبح قادرًا على قيادة مجلتها.. فقد كانت تؤمن بأن المناخ السياسى الذى يعيش فيه الشعب آنذاك لا يسمح بأى نوع من المهادنة أو إنصاف المواقف.. وعلى حامل القلم أن يقول صراحة عن طريق قلمه، هل هو مع الشعب أم ضده؟.
وكان علىَّ أن أنتظر حتى تأتى المعركة الحقيقية التى أحدد فيها موقفى بشجاعة.. ولم يكن ممكنًا أن أفتعل معركة كاذبة لن تنطلى على ذكاء «فاطمة اليوسف» وعندما لاحظت الفرصة لم أتردد وضربت ضربتى وكان الثمن أول قرار بالقبض علىَّ فى جريمة رأى، ثم خرجت من السجن لأجد فى انتظارى رئاسة التحرير!.
والآن إلى المقال الذى هز شوارب الأسد البريطانى حيث كتب إحسان عبدالقدوس وعنوان مقاله «هذا الرجل يجب أن يذهب» يقول فيه:
نحن اليوم أشد ما نكون بحاجة إلى حسن التفاهم مع انجلترا، فإن أقل سوء تفاهم بيننا قد يؤدى إلى توتر يقضى على العلاقات بين البلدين!.
وحسن التفاهم يقتضى صفاء النية، وصفاء النية «نية الشعب المصرى» تقتضى أن يذهب عنا فخامة الرايت أو نورا بل «لورد كيلرن أف كيلرن» السفير البريطانى الحالى، ومن حق إنجلترا أن تتمسك بفخامة اللورد كيلرن سفيرًا لها فى مصر، فقد نجح فى مهمته إذا نظرنا إليه بمنظار الإمبراطورية البريطانية!.
ولكن من حق مصر أيضًا أن تُطالب بسحبه من منصبه وإبداله بغيره، فقد فشل فى مهمته كسفير لبلده لدى بلد آخر مستقل له سيادة، فشل لأنه لم يستطع أن يُقنع نفسه بأن مصر بلد مستقل ذات سيادة.
وقد استقبلت مصر سعادة اللورد كيلرن عندما وصل إليها لأول مرة استقبالا كريمًا، وتمنت على قدومه الخير والبركة، ولم تمض شهور حتى ازداد أملنا فيه وبدأت انجلترا تستعيد ثقتنا بها، واقتنعنا لأول مرة فى تاريخنا الحديث أن بين الإنجليز من يذوب حبًا وصبابة فى حرية الأمم الصغيرة، وبدأ الرجل بالفعل سياسة جديدة، فتفاهم مع حزب الوفد الذى كان دائمًا ألد أعداء الإنجليز، ثم فتح باب المحادثات لتصفية العلاقات بين البلدين، وانتهت جهوده بعقد المعاهدة «1936» وأصبحت إنجلترا بالنسبة لنا صديقة حليفة عزيزة بعد أن كانت عدوة معتدية آثمة.
وخرجت المعاهدة على العالم، فدهش العالم وكتب كتابه فى أكثر من كتاب وفى أكثر من صحيفة، إن إنجلترا ضحكت على مصر وأن الزعماء المصريين مغفلون!
وأفقنا نحن من سكرة الأمل وأعدنا قراءة المعاهدة فأخذنا نولول ونلطم الخدين، ولكننا رضينا بها وشربناها مادامت الغلطة غلطتنا ومادمنا مغفلين!
ولكن هل رضيت بها إنجلترا أو على الأصح هل رضى بها فخامة اللورد كيلرن أف كيلرن، وليس هذا مقام إثبات إنه ما من مادة واحدة فى معاهدتنا العرجاء قد نفذت أو احترمت، إنما المهم أن صديقنا وصديق زعيم الأغلبية فينا لم يستطع أن يفرق بين مركزه قبل المعاهدة ومركزه بعد المعاهدة!
وقد كان جنابه قبل المعاهدة مندوبًا ساميًا وأصبح بعد المعاهدة سفيرًا ليس إلا، أى لا تتعدى حقوقه وسلطاته، حقوق وسلطات فخامة «محمود جّم»، سفير إيران فى مصر إلا فيما نص عليه البروتوكول. فهل مركز اللورد كيلرن بيننا هو مركز السفير؟ أبدًا.. بل إنه أعطى لنفسه حقوقًا فاقت حقوق المندوب السامى فى بلد مستعمَر «بفتح الميم».
والرجل الذى يقتحم قصر عابدين على رأس فرقة من الدبابات ليس سفيرًا ولا مندوبًا ساميًا إنما هو قائد لجيش معتد!
وقد لا يكون من اللياقة الدبلوماسية أن تعدد مدى أخطاء السفير البريطانى فى حق استقلالنا، أو تعدد الإنذارات الشديدة اللهجة التى أرسلها إلى حكوماتنا المختلفة أو نبين خطورة الصداقات التى تربطه ببعض رجالنا!
وإنما نحن على استعداد لأن ننسى كل ذلك وأن نبدأ صفحة جديدة فى تاريخ العلاقات المصرية الإنجليزية ولكننا لا نستطيع أن ننسى طالما أن وجه فخامته يطل علينا، ولا نستطيع أن نكتب صفحة جديدة مادامت اليد التى ستشترك معنا فى كتابتها هى اليد التى كتبت الصفحات القديمة، وسواء كانت السياسة التى اتبعت والتى ستتبع هى سياسة الحكومة الإنجليزية نفسها أو كانت سياسة السفير نفسه، فإن المسألة مسألة «سمباثى» ومسألة ثقة الشعب فى الرجل الذى يتعامل معه، واسألوا الشعب هل بينه وبين اللورد كيلرن «سمباثى» أو هل له فيه ثقة؟».
انتهى مقال إحسان وللحكاية بقية.