السبت 12 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
إحسان عبدالقدوس يطالب بطرد المندوب السامى!

حكايات صحفية

إحسان عبدالقدوس يطالب بطرد المندوب السامى!

استيقظت مصر صباح يوم 9 أغسطس سنة 1945 على أخطر زلزال سياسى لم يخطر على بال أحد.



كان الزلزال السياسى هو مجلة «روزاليوسف» وبالتحديد مقال الكاتب الشاب «إحسان عبدالقدوس» «26 سنة»، وعنوانه «الرجل الذى يجب أن يذهب»، وكان المقصود بهذا الرجل «سير مايلز لامبسون» أو «لورد كيلرن» المندوب السامى البريطانى فى مصر، وأخطر سياسى وإنجليزى جاء إلى مصر.

كان «إحسان عبدالقدوس» أول مصرى يطالب صراحة بخروج أو طرد «لورد كيلرن» ولم يكن هناك من يجرؤ على التفكير فى هذا الأمر.

 

وترتب على نشر المقال مصادرة المجلة «18 ألف نسخة» واعتقال إحسان وحبسه، وتقرر السيدة «روزاليوسف» تعيينه رئيسًا للتحرير. لقد مضى على هذه الحكاية ومعركة إحسان مع لورد «كيلرن» ثمانون عاما بالضبط، ولجيل جديد تماما من الصحفيين والقراء نعيد روايتها!

تفاصيل الحكاية وكما رواها الأستاذ «إحسان» فى أكثر من حوا ر صحفى مهم كان أبرزه مع الأستاذ «محمد الشناوى» ونشره فى مجلة الجديد سنة 1973 وكان رئيس تحرير المجلة د. رشاد رشدى.

هكذا تحدث إحسان عبدالقدوس قائلا:

كان المرحوم «النقراشى» باشا رئيسا للوزراء، وكانت الأوساط السياسية والصحفية على اختلاف ألوانها الحزبية قد بدأت تتهامس بالحديث عن حادث 4 فبراير عندما قدم لورد كيلرن سفير بريطانيا إنذاره الشهير عام 1942 لفاروق - الملك - بضرورة تعيين النحاس باشا رئيسا للوزراء، وإذا كان الحادث قد مر يومها فى صمت صنعه الإرهاب فإن الفرصة بدت مهيأة للحديث عنه، إما بدافع «النكاية» فى «الوفد» من خصومه الحزبيين، وإما بدافع الثورة للكرامة الوطنية من الشرفاء باعتبار الحادث عدوانا صارخا على السيادة المصرية، حتى لو كانت هذه السيادة ممثلة فى ملك أجنبى من أسرة دخيلة!

كنت أعلم كل هذا، ولكننى صممت على مهاجمة الحادث ومدبريه وعلى رأسهم «لورد كيلرن» وكتبت مقالى الذى فجر الزوابع من حولى، ولكنه فتح الباب على مصراعيه فى نفس الوقت، لكل الكتاب لكى يهاجموا حادث 4 فبراير بعد أن طلعت مجلة «روزاليوسف» على القراء وهى تحمل عنوان المقال الذى اهتزت له شوارب الأسد البريطانى العجوز «هذا الرجل يجب أن يذهب»!

كان العدد قد نزل للسوق فى الصباح، وكنت أجلس مع مجموعة من المحررين الشبان نخمن رد الفعل الذى سيحدثه المقال سواء عند القراء أو عند السفارة البريطانية، ولم يدر بعقولنا النظيفة أى شك فى موقف الحكومة، فالمقال ليس ضدها، إن لم تكن فيه مساندة ضمنية لها باعتباره كشفا لموقف مخجل للوفد (خصم الحكومة العنيد).

ودق جرس التليفون، وكان المتحدث هو رئيس تحرير المجلة «أمى السيدة فاطمة اليوسف»، ولم تزد فى حديثها عن عبارة مقتضبة: «مش بطال يا إحسان، أخبار التوزيع كويسة!».

ووضعت السماعة وكدت أرقص من الفرحة، أمى الصامتة الجادة معى- منذ عملت تحت رئاستها- تقول لى: مش بطال! لا شك أننى حققت نصرا هائلا.. لست مبالغا فى وصف إحساسى وقتها وساعتها كنت مستعدا لتقبل أى شىء ومواجهة أى خصم مهما كان جبروته».

ويمضى إحسان فى وصف كواليس ما جرى وقتها فيقول:

«كنا فى منتهى السعادة- وقد جلسنا فى مرح نتبادل «القفشات» حول السفير البريطانى وغضبته المتوقعة، وحزب الوفد والهجوم الصحفى الذى نتوقعه منه كرد على المقال.

 

 

 

وفتح الباب فجأة ودخل آخر من كنت أتوقع دخولهما «غول» البوليس السياسى (أميرالاى محمد إبراهيم إمام.. الذى كان يمثل عن جدارة ذراع الأخطبوط الإرهابى للسلطة المعادية للشعب، والرجل الذى أوقع بكل الثوريين الشرفاء قبل ثورة 23 يوليو (1952) وكان يسير خلفه تابعه الأمين ومساعده الأول: «البكباشى محمد الجزار» الذى منحه القدر لقبا معبرا باستحقاق عن الدور الذى لعبه فى حياة الشعب المصرى طوال الأربعينيات وحتى 23 يوليو عام 1952، وكانت على وجهيهما الوسيمين مع الأسف ابتسامة رقيقة لا تقل نعومة أو رقة عن نعومة الثعبان ورقة ملمسه!

ولكننى لم أنزعج أو يداخلنى أى خوف وتلقيت دعوتهما الخبيثة للذهاب معهما للدردشة فى بعض الأمور بمرح حقيقى، وكأننى أتلقى دعوة من سفير لحضور حفل كوكتيل، ولكنى رجوتهما الانتظار حتى أتناول العشاء الذى دعوت زملائى إليه ووافقا بكل بساطة وحب!». وفوجئ إحسان عبدالقدوس بسجنه بسبب هذا المقال ويعترف:

- كنت سعيداً بهذه التجربة، لقد أحسست أن قرار القبض عليّ صدر من النقراشى نفسه رغم أن المقال لا يمس حكومته من قريب ولا بعيد.

صادر النقراشى المجلة وكانت مفاجأة لنا وكان صديقا لأمى وللمجلة وأمر بالقبض عليّ وأدخلنى السجن وكانت أول مرة فى حياتى أدخل فيها السجن - كان سجن الأجانب - وكنت مدللا فيه للغاية ولم أستمر أكثر من أربعة أيام وكانت زوجتى تحمل ابنى الرضيع «محمد» على كتفها، حيث لم يكن قد بلغ ستة شهور، تحمله على كتفيها وتجلس تحت شباك الزنزانة المحبوس فيها.. وكنت أنظر إليها من خلال قضبان الزنزانة. وكانت ذكريات سعيدة!!

وتلاشت الدهشة بسرعة ووصلت إلى اليقين الذى كنت أسعى وراءه، ها هو النقراشى كغيره من زعماء الأحزاب قد يكون وطنيا ولكنه ضد التقدم ولا أمل فيه بالنسبة لجيل الشباب المتطلع إلى فجر جديد وعندما وصلت إلى هذه النتيجة أحسست بالراحة بل وبالفرحة بالتجربة التى أتاحها لى قرار «النقراشى» بسجنى.. لقد نسيت تماما أننى سجين وتحولت إلى دراسة السجن والتعرف على الحياة داخله وشخصيات المساجين الأجانب».

ولم تسكت السيدة روزاليوسف على سجن ابنها إحسان وكتبت مقالا مهما بعنوان «إلى ولدى السجين» نشرته بتاريخ 16 أغسطس 1945 تقول:

«ولدى إحسان

أحييك فى سجنك تحية أم وتحية مواطنة حملت قبلك شرف الجهاد فى قضية مصر، وقد اختلط فى نفسى، شعور الأم بشعور المواطنة فما أدرى بأيهما أعبر عن نفسى، إن فى قلبى ليستعر جحيمان: جحيم الأمومة وجحيم المبدأ وكلاهما قطع من عذاب!

الخوف عليك يعذبنى وما انتهى إليه مصيرك يذهب بالخوف ويبيده فعينى باكية بلا دمع ونفسى والهة بلا أنين وفى أعماق كيانى يرتفع زهو وكبرياء يخالطهما اطمئنان وراحة ضمير وحمدلله عليك وعلى نفسي!

 

 

 

أحمد الله عليك وأنت فى أول طريقك فى قضية مصر،  قد نزلت منزلا كريما، وفى سبيل مبدأ كريم، والسجن يا ولدى منازل الأحرار إذا دخلوه مدافعين عن حرية الرأى، مناضلين فى سبيل الحرية، فلا يرضون بإحناء الرأس وتلجيم الفم من أجل متاع دنيا لا تدوم وهم فى كل هذا يتعاركون عراك الديوك فى حظيرة القصاب (الجزار).

ثم أحمد الله على نفسى إذ أكرمنى وأنا ما زلت على قيد الحياة بأن أراك تحقق أملى فيك وتستقيم على المنهج الذى ربيتك عليه وأن تكون لبلادك ولحرية الرأى، وما زلت فى السن التى يكون فيها غيرك لمغامرات الشباب وأحلام الشباب ومباهج العيش الهنىء!

أنا لا أخاف عليك مما انتهيت إليه لأن السجن وقد نزلته كريما مجاهداً لن ينال من نفسك، وهذا القيد سيقوى فيك غريزة النضال وستنجلى محنتك كما تنجلى محنة الذهب وقد صهر فى النار على الإبريز الخالص الذى لا يشوبه شيء، فكن جريئا نبيلا فى سجنك كما أنت جرىء ونبيل فى حريتك.

إن مصر التى هى فوق الجميع ستكون كما يستحق كل مصرى أن يكون، وأحمد الله الذى لا يحمد على مكروه سواه أنك بين شباب مصر الذين هم صورة لمصر التى نرجو أن تكونها».

واختتمت السيدة روزاليوسف رسالتها بقولها:

«ولدى لا تجزع على والدتك فأنا بخير ما دمت أنت على المبدأ الذى سكبته فيك وأنشأتك عليه، وأنت خير من يعلم أننى حضرت الغرق والطوفان فى مواقف غير هذه.. فهل أخشى البلل وطغيان موجة لا ترتفع إلا لتنكسر.. سيكون قريبا لقاؤنا تحت الراية وفى الصف لنستأنف الجهاد».

وللحكاية بقية ومفاجأة فاطمة اليوسف لابنها إحسان!