الأربعاء 9 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قابلت «أعظم سباح فى العالم» .. أبوهيف

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

من غير مقدمات.. ظهرت على شاشة الذاكرة صورة هذا الرجل المدهش، فأعادت لى ذكريات جميلة جمعتنى به ومعه زوجته الرقيقة المرحة.. هو واحد من نخبة محدودة من المصريين ارتفعت أسماؤهم عالميا.. مثل نجيب محفوظ وأحمد زويل وبطرس غالى ويوسف إدريس وشادى عبدالسلام وعبدالحميد الجندى.. وعمر الشريف.

هو عبداللطيف أبو هيف.. ولماذا أصفه بـ«المدهش»؟

لأنه وهو يحمل لقب «أعظم سباح فى العالم» الذى منحه إياه الاتحاد الدولى للسباحة يتصرّف بتلقائية وبساطة وتواضع طبيعى ويتمتع بخفة ظل لا ينافسه فيها سوى زوجته «منار».

حقق ألقابا عديدة فى عالم سباحة المسافات الطويلة.. وفى مطلع السبعينيات تقريبا، على ما أذكر الآن، ذهبت لمقابلته وإجراء حديث معه احتفالا به فى «صباح الخير»..

توقعت أن ألتقى رجلا يشعر بمكانته العالمية ويتصرّف بنوع من الشعور الزائد بالنفس وربما النرجسية، فهو يحمل عدة ألقاب عالمية وعبر المانش أكثر من مرة وفاز فى سباقات مشهورة متفوقا على نجوم العالم فى رياضة سباحة المسافات الطويلة، وقلت لنفسى لو كان إحساسه بذاته عاليا، فهذا حقه، فهو الآن المصرى الذى يتحدّث عنه العالم وعن جدارته وتفوقه.. لكننى لا أحب من يعتبر نفسه «حاجة تانية» ويتعالى على الغير.. والحمد لله أنه ليس كذلك، فربما لم أكن لأكمل حديثى معه..  طبعا كان عليّ أن أجمع أكبر قدر من المعلومات عن عبداللطيف أبو هيف، فلجأت إلى «الحاجة وداد» مسئولة أرشيف المجلة التى حملت لى بعد لحظات، دوسيها ضخما يضم كل الموضوعات والأخبار والصور والمعلومات التى نشرت عنه، وذاكرت هذا كله وسجلت لنفسى ما أحتاجه من هذا الكم الهائل من المعلومات، وعندما ذهبت للقائه فى بيته وقد رحب بي، وبادرته فى حضور زوجته، إلى إعلان أننى أيضا إسكندرانى مثله، فإذا بالسيدة اللطيفة زوجته تردد ضاحكة أن ثلاثتنا إسكندرانية، لكنها أضافت لمسة خاصة أشعرتنى بأننى وسط عائلتي، عندما قالت إنها سعيدة بلقاء صحفى شاب من «صباح الخير» فهى قارئة منتظمة للمجلة من زمان.

عبداللطيف أبو هيف اسم كبير، وجسم فارع وقلب أبيض وبسمة لا تزول، يكلّمنى كما لو كنا أقارب أو أصدقاء قدامى، ويحكى لى حكاية حبه للسباحة واشتراكه فى مسابقاتها منذ كان فى العاشرة من عمره (عندما التقيته كان فى منتصف الأربعينيات) ولم يكن حديثنا روتينيا.. كنا ننتقل من موضوع لموضوع ثم ننشغل بأمور تتعلق بالحياة العامة ثم أجد نفسى موضع حديث صحفى تجريه معى السيدة «منار» - كم أدهشنى اسمها! - يتضمن أسئلة عن «صباح الخير» وكتابها ورساميها ثم نعاود حديثنا الذى جئت من أجله مع «أبوهيف» الذى عرفت أنه حصل على منحة من الدولة لتحقيق أمنيته الخاصة فى الالتحاق بأهم كلية عسكرية فى العالم «ساند هيرست» فى بريطانيا وعودته للانضمام للجيش المصرى ومواصلة اشتراكه فى سباقات سباحة المسافات الطويلة حول العالم وتحقيقه المركز الأول فى معظمها..

انتزع بطولة أطول وأعظم سباق فى العالم عام 1963 فى بحيرة ميتشجن الأمريكية، لمسافة 135 كيلومترا واستمر يسبح لمدة 36 ساعة.. وهو سباق لم يتكرّر بعد ذلك..  وفى هذا العام وقع عليه الاختيار ليحمل لقب «أفضل رياضى فى العالم».   البيانات كلها تحت يدي، وكل ما حققه كنت أتابعه وأعرفه وألتقى ببطلنا العالمى وزوجته وهى فارسة تهوى ركوب الخيل وكنا نصحبها إلى نادى الجزيرة لتواصل تمارينها، ليس هذا فقط فهى تعشق الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا ولها صوت سوبرانو وقدمت أكثر من عرض أوبرالى..

 

 

 

وما كان موضع إلحاحى على معرفة المزيد من التفاصيل هو نظرية عبداللطيف أبو هيف فى سباحة المسافات الطويلة بحيث يجيدها رغم صعوبتها الشديدة، ويحقق فيها الأرقام القياسية والمركز الأول فى بطولاتها المتعددة، بطولة بعد بطولة ويخوض المنافسات فى مصر فى النيل حيث حمل لقب «تمساح النيل» لفوزه المتكرر بهذه السباقات، كما يخوض سباقات العالم؟

كانت إجاباته التى حصلت عليها فى جلسات مختلفة قد شكلت لدى نظرية هذا الإنسان المدهش، وتتكون من سبعة خطوط هى: 

أولا: تكثيف الطاقة، ثم تقسيم الجهد، النَفَس الطويل، الإصرار، التحمّل، والجَلَد، ثم التركيز على هدف الفوز.

كان يهمنى أن أعرف سر نفسه الطويل الذى يجعله يخوض سباق سباحة طويلة يمتد لأكثر من 136 كيلو مترا، فأجد أن نظريته هى السر! 

واكتشفت أن «منار» هى أحد أهم عوامل تفوقه.. فهى ترعاه وتوفر له كل ظروف الراحة والهدوء وراحة البال والمرح بحيث لا يكون هناك أى شيء يشغله عن التركيز الشديد فى عملية إحراز التفوق الذى يدهش خبراء هذه الرياضة الصعبة والمثيرة.. والعوامل الأخرى بعد التطبيق الدقيق لأسلوبه ونظريته، كثيرة منها إقباله الحار على الحياة وروح العطاء التى يتمتع بها.

أتذكر أنه فى مرة كان فى بطولة تتابع مع زميل له فرنسى الجنسية فى منافسة مع ثنائيات أخرى من مشاهير سباحى المسافات الطويلة فى العالم، لعبور المانش، لكن زميله الفرنسى أصابه الإرهاق ومرض ولم يكمل السباق فواصل هو وحده وأكمل السباق وفاز بالبطولة.

لكن عندما حصل على الجائزة المالية قدم نصفها وكانت خمسة آلاف جنيه إلى زميله المريض. وتبرع أيضا بالجائزة المالية لسباق آخر لأسرة زميل سباح إنجليزى غرق فى المانش أثناء عبوره.. 

وهناك أكثر من موقف مشابه تحدثت عنه الصحف حيث إنه قدم الجائزة المالية التى فاز بها فى أحد السباقات لزميل له فرنسي، كان قد اعتزل لإصابته بالشلل.

هذا الرجل المدهش لا ينسى، ببطولاته المثيرة وأخلاقه الرفيعة، ومنها الفوز ببطولة العالم للسباحة لخمس مرات والفوز بعشرين سباقًا دوليًا. وتحطيم الرقم القياسى فى سنة 1953. 

وتحت يدى بيانات عن الجوائز التى نالها والتكريم الذى لقاه من الرئيس جمال عبدالناصر..

وحكاية طريفة هى أن شهرة هذا البطل وشخصيته، دعت المخرج السينمائى حسام الدين مصطفى يختاره لبطولة من نوع آخر.. على الشاشة البيضاء، لكنه كان ضابطا فى القوات البحرية وقال قادته وقتها إن العمل فى السينما لا يصح له.

وأنا أكتب هذه الحكاية تذكرت أننى استلهمت روح وشخصية ونظرية عبداللطيف أبو هيف فى إحدى رواياتى وهى «سبع جنات» التى نشرت مسلسلة فى «صباح الخير» وصدرت فى كتاب ضمن سلسلة «روايات الهلال»..

كانت الشخصية النسائية الرئيسية «جنات» وقد جعلتها بطلة سباحة المسافات الطويلة، وتستخدم نظرية أبو هيف، أى إنها كانت «أبو هيف مؤنث» دون ذكر اسمه، وأفادتها هذه النظرية فى تجاوز كل المتاعب التى لاقتها خلال قصة حبها لإنسان يحبها لكنه فى حال ضياع جعله يندمج حسيا مع أكثر من امرأة، وبدلا من «جنات» واحدة أصبح لديه «سبع جنات»!

وعندما كنت أكتب الرواية لم يخطر ببالى «أبو هيف» إطلاقا رغم رسمى لملامح شخصيته ونظريته فى صورة «جنات»  والرواية تدورأحداثها فى أجواء الحراك السياسى الذى عاشته مصر فى السنوات السابقة عن 25 يناير2011، وكان «سلطان» بطل الرواية يعانى التشتت واضطراب العواطف فتعرض لغيبوبة لازمته من أول مشهد فى الرواية وحتى النهاية إذ يفيق مع إرهاصات الحراك. 

 

 

 

وقال بعض القراء والنقاد أن «سبع جنات» انطوت على تنبؤ بأحداث يناير، فقد كتبتها متأثرا بحال الحراك السياسى الذى عاشته مصر قبلها، كتبتها سنة 2010 ووقعت فى 2011.

وأستنتج الآن أن شخصية عبداللطيف أبو هيف نفذت إلى منطقة الخيال واللاوعى لدى دون أن ألاحظ هذا إلا الآن بعد أكثر من نصف قرن.. ألم أقل لكم إنه شخصية مدهشة؟!

وفى الأسبوع المقبل نواصل