
رشاد كامل
حكايات صحفية
المندوب السامى البريطانى ويوم بيوم فى مصر!
هناك شخصيات تاريخية تترك بصماتها على مجريات الأحداث، شخصيات تتأثر بالأحداث وتؤثر فيها، وشخصية «لورد كيلرن» المندوب السامى البريطانى على مصر من هذا النوع!
وشخصية لورد كيلرن من الشخصيات المستبدة التى لا يُقاوَم لها قرار أو ترد لها رغبة، وتشاء الظروف أن يكون معاصرًا لشخصية «الملك فاروق» الذى كان فى نظره شخصية صورية غير مقتنع به كملك على مصر، وكان يصفه دائمًا بصفات لا تليق، وأنه الملك الصغير، بل إن لورد «كيلرن» كان يعتبر نفسه هو ملك مصر الحقيقى».
بهذه الكلمات يقدم د.«عبدالرءوف أحمد عمرو» ترجمته لمذكرات اللورد كيلرن التى أعدها «تريفور إيفانز» أستاذ العلاقات الدولية بجامعة «ويلز» وكان «سير مايلز لامبسون» الذى اشتهر بلقب «لورد كيلرن» كمندوب سامى لمصر والسودان طوال 12 سنة (1934 - 1946) احتفظ بمذكرات كاملة عن ذكريات هذه السنوات، وحتى عندما كان ضغط العمل عليه شديدًا فإنه لم ينقطع عن تسجيل أحداث أيامه والتى تصل جملتها إلى أكثر من اثنين مليون كلمة، ووثائق يزيد كلماتها على مائة ألف كلمة!!
عندما وصل سير مايلز لامبسون إلى مصر لكى يتولى حكم مصر والسودان كمندوب سامٍ، كان يحكم مصر الملك فؤاد فى ذلك الوقت والأمير «فاروق» وليًا للعهد وكتب فى مذكراته بتاريخ الأحد 7 يناير (1934):
وصلت إلى السويس الساعة 4 صباحًا، وكنت فى غاية الإرهاق والإعياء وكم كنت أشعر بالسعادة والسرور، ودفعت مجموعة من الفواتير والبقشيش بما يساوى 19.10 جنيه استرلينى(!!).
أويت إلى السرير فى وقت متأخر ولكن ما زالت عالقة بذاكرتى هذه الأخبار المحيرة المفجعة عن حقيقة الأوضاع السياسية فى مصر والتى ليس عندى أدنى فكرة مسبقة عنها.

وبتاريخ الاثنين 9 يناير (1934) يكتب:
خرجت لمقابلة الملك فؤاد فى قصر القبة وهو قصر جميل وكبير وغاية فى التنسيق، وقابلنى الملك فور وصولى ورحب بى بحرارة والملك قصير القامة ممتلئ بعض الشىء، مهندم، له شارب مفتول مرفوع إلى أعلى، وبصفة عامة كان انطباعى عنه فى بادئ الأمر أنه صديق لى، وهو شخصية تبدو عنيفة بخلاف ما سمعته عنه ويبدو أنه صعب المراس إذا ما حدثه أى شخص بصراحة أو بشىء من الإثارة أو إرغامه على فعل شىء على غير رغبته!
وبإيجاز أعتقد أن الإنسان يشعر بالقلق وعدم الارتياح إذا ما قابل الملك فؤاد!
وبتاريخ 19 فبراير يوم الاثنين يكتب:
قضيت وقت الصباح كله فى مقابلة واستقبال رئيس الوزراء (عبدالفتاح يحيى باشا)، وحقيقة لقد كان شخصية جديرة بالتقدير ويشجع على التعامل معه، ولقد أخبرنى بأن المشكلة التى يعانى منها الملك «فؤاد» هى عدم معرفته باللغة الإنجليزية، كما أن الملك فؤاد قضى فترة شبابه فى إيطاليا، ولذلك لقى صعوبة فى تعلم اللغة التركية، ومن ثم فلقد صمم على ألا يعانى ابنه «فاروق» من نفس المشكلة، ولكن كيف يتسنى لهذا الأمير فاروق أن يتعلم اللغة التركية إذا ما تقرر سفره إلى لندن، ويجب أن يعامل هناك كشخص عادى دون أى تمييز ودون أن ترافقه الحاشية الخاصة به!
ووافقته على هذا الرأى إذا ما أصبح مؤكدًا أن يواصل الأمير تعليمه بإنجلترا وعليه أن ينفذ هذا فورًا وليس من المفيد أن يكمل الأمير تعليمه كما تصوّر الملك فؤاد إذا وصلت سِنّه إلى ستة عشر عامًا!».
وطوال تلك الشهور كان لورد كيلرن دائم التنقل فى أنحاء مصر والاختلاط بمن يقابلهم ويكتب ملاحظاته، كما كان كثير السفر إلى خارج مصر ويمارس هوايته فى الصيد مع أمراء مقاطعة «ويلز»، وفى شهر ديسمبر يتزوج من جاكلين التى كان عمرها فى سنوات المراهقة وكان عمره وقتها 45 عامًا.
عاد لورد كيلرن إلى مصر فى 9 يناير سنة 1935 ليجد أن الملك قد أقال رئيس الوزراء «عبدالفتاح يحيى باشا» وعيّن بدلًا منه توفيق نسيم باشا.
ويكتب بتاريخ السبت 12 يناير:
قابلت الملك فؤاد فى قصر القبة وقت الظهر، ولقد وقفت على كل تفاصيل الحالة الصحية للملك فؤاد، ولقد قيل لى إن اللقاء معه لن يستمر أكثر من عشر دقائق، ومن المدهش أن اللقاء استمر لمدة ساعة ونصف الساعة، ووجدت صعوبة فى أن يسمح لى بالانصراف، وكتبت تقريرًا عن هذه المقابلة وكان كالتالى: «الملك فؤاد يبدو عليه المرض إذ كان لون وجهه غير طبيعى ويبدو عليه الهزال بصورة واضحة ومن المستبعد تحسن صحته، ولقد تكلمت طويلًا مع لفيف الأطباء المشرفين على علاجه».
لقد كانت الحالة الصحية للملك فؤاد على رأس اهتمامات لورد كيلرن، وفى يوم الثلاثاء 28 أبريل تتلقى السفارة البريطانية اتصالًا تليفونيًَا من «على ماهر» رئيس الوزراء يفيد بوفاة الملك، ويروى كيلرن بالتفصيل ما جرى بعد ذلك من مراسم الوداع وتشييع الجنازة، ومن أهم ملاحظاته قوله:
كانت الشوارع مليئة بالجماهير والوجوم والحزن كان باديًا على وجوه الجميع؛ خصوصًا أن الملك فؤاد فى الشهور الماضية كان محبوبًا لدى الجماهير، وعلى أية حال فإن فقد الملك «فؤاد» يعد خسارة كبيرة فى نظر المصريين جميعًا، ولقد أصبح لدىّ قناعة تامة بذلك وأنى أشارك الرأى العام هذا الشعور.
والآن بغياب الملك فؤاد يجب أن نحاول من جانبنا أن نطوّع الملك الصغير- فاروق- ليكون فى أيدينا!
وبتاريخ الأربعاء 6 مايو يكتب:
ذهبت إلى لقاء الملك «فاروق» على محطة السكة الحديد فى تمام الساعة 12.30 ظهرًا وكان بالمحطة جمهرة من وجهاء القوم وكبار الشخصيات، قام الملك بتفقد حرس الشرف وتبادلت معه بعض الكلمات القليلة قبل مغادرته المحطة، كان يبدو شاحب الوجه وصحته ليست على ما يرام، مسكين هذا الولد!
وبتاريخ السبت 9 مايو يسجل كيلرن وقائع مقابلته مع فاروق فيقول:
فى تمام الساعة 11.30 صباحًا قابلت الملك المنصب على العرش حديثا وكان لقاؤه بى وديًا للغاية واستغرق اللقاء حوالى الساعة، بدأت حديثى معه بقولى:
- إننا شركاء فى تحمل المسئوليات الجسام للموقف وكان والده ينوء بعبء هذه المسئوليات، وبالرغم من أنه كان يجمع فى يده كل السلطات وبذلك لا نستطيع أن نتصور مدى المتاعب التى سببها للأحزاب السياسية، وفى الواقع كانت هذه مسئوليات أكبر من تفكير هذا الملك الصغير (الملك فاروق) نظرًا لصغر سِنّه!
وأنا لا أريد أن أسبب له أى معوقات، ومما لا شك فيه أن الاهتمام بالعلاقات البريطانية يأتى فى مقدمة المسائل التى تهم دولته وآمل بأنه سوف يتأكد بنفسه، أننا سوف نكون خير مرشد وناصح له إذا ما واجهته أى متاعب أو مشاكل، وأننا أصدقاء له دون أى نوع من الاستغلال أو الوصولية.
وعندئذٍ قال لى الملك فاروق: إنه متأكد من حقيقة المشاكل والمصاعب الملقاة على عاتقه، وهو مصمم على أن يلتزم جانب التروى والهدوء فى تناول هذه المشاكل، ويحلها خطوة خطوة بكل تأنٍّ وروية.

وذكرته بما كان عليه والده «الملك فؤاد»، إذ كان يتحلى بالصبر، ولكن الملك فاروق ذكرنى بما كانت تتحلى به أسرته من عدم الشكوى والتبرم!
وكم كنت أحسده على إجادته اللغة الإنجليزية، ومما لا شك فيه أن حديثه بها شىء رائع، وهذا قادنا إلى الحديث عن أسلوب تربيته وعن «مسز نايلور»- رئيسة خدم القصر- وعندئذ قال الملك فاروق: بأنه تأكد هو شخصيًا إنه مدين بالفضل إلى مسز «نايلور»، ولم تكن هناك أى إشارة لأى محاولة لاستغنائه عن أى شخص من خدم القصر.
وقال الملك فاروق: بأن أخواته جميعهن يتحدثن اللغة الإنجليزية بطلاقة أفضل منه بكثير ولكنه يتميز عنهن بأنه يتحدث اللغة الفرنسية أفضل منهن!
ولهذا السبب فإن والده ووالدته يتحدثان الفرنسية بطلاقة، وحقيقة- إلى هنا- يبدو أن الملك «فاروق» غامض بالنسبة للمستقبل، وإن كان قد بدأ بداية حقيقية بأنه ليس لديه فكرة عن خططه أو أفكاره فى مستقبل الأيام وكان يعتقد أن مسألة توليه العرش شىء مريح وهين!
وانتهزت الفرصة لأدخل فى الموضوع مباشرة وطلبت منه أن يكون حذرًا من نفاق ومداهنة الإيطاليين فى داخل القصر وذكرت له ذلك بكل تعقل وهدوء، ولقد استغرق اللقاء زهاء الساعة قبل أن أغادر المكان».
.. وللحكاية بقية!