الإثنين 12 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أبوالصُلح بهجة الكاريكاتير المصرى

هو أحد من أثروا وشاركوا فى تشكيل الوجدان الثقافى للشعب المصرى بمختلف أطيافه على مدار ما يقرب من أربعة عقود. حيث ركز إبداعه فى أكثر من مجال فنى. وكان إبداعه غزيرًا ومدهشًا ومتنوعًا. تركز فى رسم الكاريكاتير والكتابة والشعر والغناء والسينما والمسرح، حيث كانت رؤيته فى بداياته بأن يتجول بين الفنون حتى يتغلب أحدها على الآخر ويكمل معه المسيرة ويستمر.



 

 

 

ورغم أن رسم الكاريكاتير تفوق فى هذه المرحلة وأخذ نصيب الأسد من وقته واهتمامه؛ فإنه لم يجد مفرًا من أن يتواجد وبقوة وبثبات فى سائر الفنون الأخرى. ليثبت للكل بأن باب الفن مفتوح على مصراعيه أمام الجميع شريطة التركيز والتعمق فى الفكرة والمضمون. 

هو وبحق الأب الروحى لشعر العامية. وهو بلا نقاش أبوالكاريكاتير المصرى. حيث تميزت أعماله بمواكبة الأحداث ونقدها. أثار الرأى العام بآرائه الصائبة، بالإضافة إلى خفة ظله وبعده عن النمطية. باختصار نحن أمام سيرة عطرة لمبدع عبقرى. يمشى على الأرض أحيانًا. ويحلق فى سماء وعنان الإبداع طول الوقت.  هو محمد صلاح الدين بهجت أحمد حلمى. الذى اشتُهر باسم صلاح جاهين. من مواليد القاهرة فى 25 ديسمبر 1930 لأسرة قاهرية. وبالأخص فى 12 شارع جميل باشا بشبرا. وحول نشأته فهو حفيد الصحفى السياسى أحمد حلمى ابن حى الحسين الذى كان كاتبًا وثائرًا. طلع على الناس فى جريدة اللواء، بفرائد كان لها بينهم صوت وجرس، ومشى فى درب الكفاح الوطنى جنبًا إلى جنب مع مصطفى كامل، ومحمد فريد.

وتم اتهامه بالعيب فى «الذات الملكية» لمعارضته للخديو عباس حلمى الثانى وتم سجنه. فكرمته الثورة فيما بعد وأطلقت اسمه على أحد الشوارع الكبرى بحى شبرا. وجاهين هو الابن الأكبر والأخ الوحيد لأخواته البنات الثلاث. تجول بين ربوع محافظات مصر بسبب عمل والده. حيث كان وكيلًا للنيابة وتدرج فى عمله حتى أصبح قاضيًا ورئيسًا لمحكمة استئناف المنصورة. ولهذا السبب تنقل بصحبة أسرته من محافظة إلى أخرى حتى استقر مرة أخرى بالقاهرة بعد 12 سنة من التجوال فى القطر المصرى. وهو ما شكل وجدان صلاح جاهين طفلًا وفجَّر لديه طاقات كبيرة فى الفن. حيث تنقل من مدرسة لأخرى. عاش بين ربوع الطبيعة فى الريف. ورأى بعينه الشعب فى أعمق أعماقه بتقاليده وعاداته وحكاياته وأساطيره وأغانيه ورقصاته. 

سؤال جعلنا نرجع لسنوات الصبى لهذا الفنان الكبير التى صاغها فى حوار صحفى بسيط أجراه تحت عنوان «نقطة التحول فى حياتى»، وكان قد نشِر بمجلة سمير -التى تصدر عن دار الهلال- فى عدد 14 سبتمبر 1969 متحدثًا عن طفولته. حيث كشف صلاح جاهين مصرحًا: كان والدى وكيلًا للنيابة ثم قاضيًا. وكان يريدنى أن أتخرج فى كلية الحقوق وأصير محاميًا أو وكيلا للنيابة وأسلك دربه. وخلال إقامتنا فى أسيوط مرضت بالتيفود، وكان عمرى وقتها 12 عامًا. وأثناء مرضى كان والدى يسهر معى ويقرأ لى كتابًا استعاره من مكتبة مدرسة الأمريكان بأسيوط، يحتوى على مجموعة قصص من حياة الفنانين وكفاحهم ومن هنا أحببت الفن.

وتابع جاهين حديثه: وكان لتأثير مرضى، وقراءة حياة الفنانين وكان للمنظر الخلاب الذى شاهدته من النافذة أثر كبير فى تحول مجرى حياتى إلى طريق الفن والرسم بصفة خاصة. وهكذا بدأت أُعنى بدراسة الرسم، وأرسم فى البداية وجوه من حولى إخوتى وأصدقائى، وبعد عام واحد رسمت لوحتى المشهورة مشهد من «جحيم دانتى» وكنت وقتها ما زلت طالبًا بالصف الثانى الثانوى.

 «صحفيًا وكاريكاتوريًا»

كانت بدايات صلاح جاهين الفنية مع فن التمثيل وقتما كان طالبًا، وكان مولعًا بالمسرح، لكن هذا الأمر لم يجد ترحيبًا لدى والدته. التى حذرته من التمثيل والاعتماد عليه كمصدر رزق ومجال للحياة. واستجاب جاهين لرؤيتها فى هذا الشأن. ولم يجد جاهين وقتها سوى الرسم ليفرغ فيه طاقته الإبداعية. وأخذ يرسم مشاهد درامية مسرحية بتمكن وببراعة. كما أنه كان يرى أن الفنان محمد عبدالمنعم رخا هو الأب الروحى الذى استقى منه فن الكاريكاتير.

ولأنه كان قريبًا جدًا من الوسط الصحفى وتربطه صداقات مع بعض الصحفيين الشبان. فوجد نفسه يتودد للصحافة ويرسم الماكيتات الصحفية ويصمم الصفحات ويرسم بعض الرسوم الساخرة فى هوامش هذه الصفحات. وكانت بدايته الصحفية مع جريدة بنت النيل وهى مجلة نسائية شهرية. ثم انتقل بعدها للعمل بجريدة التحرير. 

وفى إحدى الجلسات اقترح عليه أحد النقاد بأن ينتقل للعمل بـ«مجلة روزاليوسف» خلفًا للفنان الكبير عبدالسميع الذى قد ترك العمل بالمجلة كرسام وانضم إلى كتيبة جريدة الأخبار ليشارك الفنان المخضرم رخا والفنان الكبير صاروخان رسم الكاريكاتير بـ«الأخبار». ولم ير جاهين نفسه رسامًا للكاريكاتير فى هذا الوقت.

بل لم ير نفسه الشخص المناسب ليحل محل عبدالسميع. ورفض الفكرة شكلًا وموضوعًا. حتى عرض عليه الكاتب الصحفى الكبير أحمد بهاء الدين بنفسه - وكان يشغل فى هذا الوقت منصب مدير تحرير «روزاليوسف» - العمل بالمجلة كرسام للكاريكاتير. ووافق جاهين على الفور وانضم إلى كتيبة «روزاليوسف» عام 1955 ليبدأ تحديًا يثبت فيه قدراته وإمكانياته كرسام متمكن للكاريكاتير.

وكانت بدايته مع «روزاليوسف» مختلفة بعض الشىء عما  يُنشر بالصحف الأخرى. حيث كان الكاريكاتير إما سياسى موجه لصالح قضايا واضحة ومفهومة للقارئ. أو ساخر أقرب لكونه نكتة لإضحاك القارئ. لكن جاهين لمس برؤيته المتعمقة للشارع المصرى مدى معاناة المواطن داخل وسائل النقل. وانتقد فكرة تشغيل أثير الراديو المشوش الصوت داخل حافلات النقل العام لإلهاء المواطن ليتحلى بالصبر على الزحام داخل الباصات، وكانت هذه البداية هى الطريق الذى مهده لنفسه لميلاد نجم ساطع فى عالم الكاريكاتير. ومع ظهور أول عدد من مجلة صباح الخير فى إبريل 1956. لمع نجم صلاح جاهين وأصبح أكثر توهجًا. وهذا ليس بالغريب، حيث أنه أحد رواد مدرسة صباح الخير الكاريكاتورية. بل أكثرهم إبداعًا من حيث تناول الأفكار وغزارة الإنتاج، وهنا لا بد أن نذكر أن جاهين من مؤسسى مجلة صباح الخير، وأنه تدرج بالمجلة حتى وصل إلى منصب رئيس تحرير فى عام 1966. 

ولهذا المنصب حديث وواقعة لا بد أن تُذكَر وتُسرَد. حيث كان جاهين فى هذا الوقت قد انتقل للعمل بـ«جريدة الأهرام». وكان الكاتب الصحفى الكبير أحمد بهاء الدين فى هذا الوقت يشغل منصب رئيس مجلس إدارة روزاليوسف ودار الهلال معًا. وكان الكاتب الروائى الكبير إحسان عبدالقدوس رئيسًا لتحرير صباح الخير. إلا أن الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل رئيس مجلس إدارة الأهرام وأخبار اليوم معًا وقتها، قد قرر اختطاف عبدالقدوس لينضم للزخم الكبير من عمالقة الكتاب بجريدة الأهرام، فكان الرد من بهاء الدين أن اختطف جاهين من الأهرام واستقدمه من جديد لمجلة صباح الخير ليتولى منصب رئيس تحريرها. وهو ما زاد من مبيعات المجلة تلقائيًا. فأفكار وأعمال صلاح جاهين كانت تلقى رواجًا كبيرًا بالشارع المصرى. ووقتها زادت مبيعات المجلة من 27 ألفًا إلى 65 ألف نسخة. وكان جاهين يطمح فى أن يحول صباح الخير لمجلة كاريكاتورية ساخرة تخاطب القراء بالرسم أسوة بـPunch الإنجليزية وle Canard Enchainé الفرنسية. 

 

 

 

وكان الكاتب الصحفى الكبير لويس جريس يشغل منصب مدير تحرير مجلة صباح الخير عقب عودته من ألمانيا. وناقشه جاهين فى فكرة أن تعتمد المجلة قلبًا وقالبًا على الكاريكاتير. وطلب منه الاستغناء عن المحررين ونقلهم لـمجلة روزاليوسف والإبقاء على الرسامين فقط. وهو ما قابله جريس بالرفض وناقشه بالمنطق والحجة. متعللًا بأن الكتَّاب الصحفيين قد رتبوا حياتهم على العمل بالمجلة منذ إصدارها الأول. ومن الصعب أن نغير من وضعهم وتحويل مسارهم بقرار عفوى.

تزامن هذا الموقف والحوار الذى دار بينهما مع انشغال جاهين بزيجته الثانية من السيدة منى قطان؛ الأمر الذى استغرقه أكثر من متابعة المجلة حتى تزوجا فى يونيو 1967، ثم حدثت النكسة وانخفضت مبيعات المجلة تلقائيًا، وأصيب جاهين بالاكتئاب. 

وفى يوم 15 يونيو اتصل جاهين بجريس فى الصباح الباكر قبل أن يتوجه إلى المجلة ليخبره بأنه قد ترك له هدية فى درج مكتبه. كانت الهدية عبارة عن رسم بيانى لمبيعات صباح الخير قبل وبعد النكسة وكتب عليه: مبروك عليك المجلة!. وبعدها عاد جاهين من جديد ليرسم الكاريكاتير بجريدة الأهرام. ويملأ مساحات رسمه من الكاريكاتير بقصاصات ورق الزيبتون التى تضيف بعض التأثيرات والملامس على الرسم ليجعلها أكثر غنى وبهاءً.

يذكر أن أول أجر تقاضاه صلاح جاهين من الرسم كان خمسة جنيهات. وكان ذلك نظير رسم خلفية لوحة قام برسمها لأحد المصورين الفوتغرافيين. الذى وضعها كديكور فى الاستوديو حتى يقف أمامها الزبائن الذين يحضرون ليلتقط لهم الصور التذكارية وغير التذكارية، وكان وقتها فى الصف الثانى الثانوى، بحسب التصريحات التى نشرت له عبر مجلة سمير.

 «مسرحيًا»

كان صلاح جاهين مولعًا بالمسرح منذ الصغر. لذلك كتب العديد من المسرحيات، بل كتب بعض المسرحيات الاستعراضية. وأعاد كتابة أعمال مسرحية خالدة مثل: دائرة الطباشير القوقازية للكاتب المسرحى الألمانى بيرتولت بريخت. يذكر أن جاهين قد نشط فى العمل المسرحى عقب النكسة. إلا أن أعماله المسرحية لم تجد ذلك النجاح والتهافت عليها كما كان يتوقع. فبدأ مباشرة فى توجيه أعماله نحو السينما والتلفزيون. 

 

 

 

 «سينمائيًا»

أنتج العديد من الأفلام الخالدة فى تاريخ السينما المصرية والتى تعد علامات فارقة فى تاريخ السينما المصرية. ومنها «أميرة حبى أنا وفيلم عودة الابن الضال»، ولعبت زوجته الثانية السيدة منى قطان أدوارًا فى بعض الأفلام التى أنتجها. 

كما كتب سيناريو فيلم «خلى بالك من زوزو» والذى يعتبر أحد أكثر الأفلام رواجًا فى السبعينيات؛ إذ تجاوز عرضه حاجز 54 أسبوعًا متتاليًا، كما كتب أيضًا أفلام «أميرة حبى أنا وشفيقة ومتولى والمتوحشة»، كما شارك بالتمثيل فى أفلام «شهيد الحب الإلهى عام 1962 واللص والكلاب 1962 ولا وقت للحب عام 1963 والمماليك 1965».

ينظر البعض إلى أن جاهين هو متبنى موهبة على الحجار، وأحمد زكى، وشريف منير وغيرهم. كما ارتبط بعلاقة قوية مع الفنانة سعاد حسنى حيث دفعها إلى العمل مع أحمد زكى فى مسلسل «هو وهى»، اللذين قد التقيا من قبل فى فيلم شفيقة ومتولى تأليف الكاتب والشاعر شوقى عبدالحكيم، وإخراج على بدرخان. وسيناريو وحوار صلاح جاهين.

 «ممثلًا»

شارك جاهين فى خمسة أفلام كممثل، وهى أفلام: شهيدة الحب الإلهى أمام الفنانة اللبنانية عايدة هلال والفنان رشدى أباظة والفنان حسين رياض وإخراج عباس كامل، ومن غير ميعاد أمام الفنانة سعاد حسنى والفنانة نادية لطفى والفنان محرم فؤاد والفنان محمد سلطان وإخراج أحمد ضياء الدين، ولا وقت للحب أمام الفنانة فاتن حمامة والفنان رشدى أباظة وإخراج صلاح أبوسيف، واللص والكلاب أمام الفنانة شادية والفنان شكرى سرحان والفنان كمال الشناوى وإخراج كمال الشيخ، وأخيرًا فيلم المماليك أمام الفنانة نبيلة عبيد والفنان عمر الشريف وإخراج عاطف سالم.

يذكر أن جاهين جسد دور عمّار -صاحب الحانة- فى فيلم شهيدة الحب الإلهى. كما قام بالغناء أيضًا. حيث غنى أغنية هى الوحيدة التى كتبها جاهين بنفسه ولنفسه فى هذا الفيلم. حيث أن باقى الأغانى كان قد كتبها الشاعر عبدالفتاح مصطفى.

 

 

 

كما أنه فى أواخر الخمسينيات كان المخرج صلاح أبوسيف يستعد لتصوير فيلم «لا وقت للحب» المأخوذ عن قصة حب -للكاتب الكبير يوسف إدريس- التى كتب لها السيناريو الروائى الكبير نجيب محفوظ، وشاركه فى كتابته صلاح أبوسيف بنفسه. وقد اختار فاتن حمامة ورشدى أباظة كأبطال للفيلم. وراح يفكر فيمن سوف يجسد شخصية بدير فى هذا الفيلم. وتوجه فكره وألهمه نحو الفنان صلاح جاهين. الذى رأه الأنسب، بل شخصية جاهين فى الحقيقة هى الأقرب إلى شخصية بدير. لكنه تساءل مع نفسه. كيف يمكن أن يتواجد صلاح جاهين بين فاتن حمامة ورشدى أباظة؟ 

فتوجه على الفور إلى يوسف إدريس وقطع عليه تفكيره سائلًا: ما رأيك فى صلاح جاهين ممثلا؟! وغمغم إدريس: صلاح الذى أعرفه وأحبه يتسم بعبقرية تتسع لكل شيء موهوب يتبنى الموهوبين من الشعراء والرسامين، وهو عون لكل وافد جديد على الساحة الفنية، والأمر يتوقف على الصورة التى تقدمه فيها على الشاشة. 

 «شاعرًا»

كان الرسم يأخذ كل وقت جاهين وهو طالب، لذلك كان يحرم من الرسم وقت الدراسة، فوجد نفسه يكتب الشعر كبديل للرسم. وكانت حيلة ذكية حيث إن لا أحد كان يدرى إن كان يذاكر أم يكتب الشعر. ومن هنا كانت بدايته مع الشعر. حيث كتب الشعر العمودى فى هذه المرحلة. ومع نضوجه الفكرى وجد نفسه غارقًا فى غرام الشعر العامى. وقد لاقى بعض المشاكل والهجوم عليه بسبب هذا التوجه، إلا أنه صمد وواصل إبداعه مع الشعر العامى. 

ومن أوائل الأعمال التى لمعت ولاقت نجاحًا باهرًا للفنان صلاح جاهين كان أوبريت سوق بلدنا والذى أذيع عبر الإذاعة المصرية. وكان أشبه بصورة غنائية لحنها الموسيقار أحمد صدقى وغناها كارم محمود ومحمد قنديل وشفيق جلال وأخرجها لاحقًا المخرج الكبير صلاح أبوسيف وقدمها مصورة سينمائيًا.

وتعد رباعيات صلاح جاهين الشعرية العامية الفلسفية هى قمة أعماله فى مجال الشعر. وقد تجاوزت مبيعات الرباعيات فى طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب فقط، أكثر من 125 ألف نسخة. كما قام بتلحين هذه الرباعيات الموسيقار سيد مكاوى وغناها المطرب على الحجار. كما شارك فى العزف الموسيقار هانى مهنا. وهنا لا بد أن أذكر أن جاهين قام بتأليف ما يزيد على 161 قصيدة، منها قصيدة «على اسم مصر» وأيضا قصيدة «تراب دخان» التى ألفها عقب نكسة يونيو 1967. 

 

 

 

الشعر الغنائى

ما من مطرب أو مطربة إلا وتمنى أن يغنى أغنية من أشعار العبقرى صلاح جاهين. وكان جاهين قد كتب فى حياته لكبار المطربين. كما أن له مجموعة كبيرة من القصائد الوطنية التى تحولت بطبيعة الحال إلى أغانٍ وطنية. حيث مثل مع عبدالحليم حافظ وكمال الطويل كتيبة عمل أفرزت أجمل الأغانى الوطنية التى كانت تلهب حماس مصر. وتعد أغنية بالأحضان وصورة واحنا الشعب من أشهر ما غنى العندليب الأسمر من أشعار صلاح جاهين. كما أن له مجموعة كبيرة من الأغانى الخفيفة والرومانسية السلسة مثل: أنا هنا يا ابن الحلال لصباح، وليلة امبارح مجاليش نوم لسيد مكاوى وصغيرة على الحب وخلى بالك من زوزو ويا واد يا تقيل وبانوا بانوا وشيكا بيكا ويا تجيبلى شوكولاتة لسعاد حسنى، وبان عليا حبه لنجاة الصغيرة، وياما قلبى قالى لأ لفايزة أحمد، وغيرك أنت مليش لشهرزاد، وولد وبنت لعلى الحجار، وأبريق الشاى لسيد الملاح، وزنقة الستات للبلبة والمريلة الكحلى لمحمد منير. كما غنى العديد من المطربين من رباعياته بعد وفاته وكان آخرهم توما ومحمد حماقى. ولعل أشهر أغنية للمطربة المصرية الفرنسية داليدا هى سالمة يا سلامة والتى لاقت صدى كبيرًا داخل مصر. وكان جاهين قد كتب هذه الأغنية إلا أنه تم تغيير بعض كلمات الأغنية حتى تتوافق مع اللحن والأداء الصوتى لـ«داليدا» وهو ما أثار غضبه.

ومن ألطف الأغانى التى أحبها وأحب أن أذكرها هى أغنية حدوته من غناء محمد قنديل وألحان سيد مكاوى. وتقول كلماتها:

لو كنتى سـت الحسن والجمال

يكون أميـــر أحلام غرامك أنا

ليكى أول الحـــدوتة فى الدلال

وأنا آخــر الحـــدوتة ليا الهنا

دقيــت عليــــكى البـــاب كتير

رد الصــدى وقــــال يا أمير

ما بينكم البحـــر الكبيــــــــر

 

 

 

ولعل أهم ما تم تلحينه من إبداعات جاهين هو النشيد الوطنى «والله زمان يا سلاحى» والذى استمر فى الفترة من 1958 وحتى 1977. وهذا النشيد من تلحين الموسيقار كمال الطويل ومن غناء كوكب الشرق أم كلثوم. حيث طلب كمال الطويل من صلاح جاهين أن يكتب أغنية لتواكب الأحداث إبان العدوان الثلاثى عام 1956. وبالفعل كتب جاهين مقدمة الأغنية بعد عشر دقائق من اتصال الطويل به. وأخذ يواصل باقى الأغنية ويبلغه له جزءًا بعد جزء عبر الهاتف حتى انتهى من الأغنية بالكامل.

وتقول الأغنية فى مدخلها:

والله زمان يا سلاحى أشتقت له فى كفاحي

رد وقول أنا صاحى يا حرب والله زمان

كما يرجع أنه عقب انتصار السادس من أكتوبر عام 1973 كتب جاهين أغنية صدقت يابنى أنت وهى التى غنتها سعاد حسنى وتم تصويرها سينمائيًا بشكل استعراضى بديع يتوافق تماما مع تجليات الانتصار.

الليلة الكبيرة

قام جاهين بتأليف أوبريت الليلة الكبيرة الذى يعد أشهر أوبريت للعرائس فى مصر على الإطلاق بين عامى 56-1957. وقد قدم عبر الإذاعة المصرية عام 1957. حيث كان يذاع يوميًا.

كما قدمه مسرح القاهرة للعرائس فى أول عروضه عقب افتتاحه، تحت رئاسة الكاتب الصحفى راجى عنايت، وشارك جاهين فى إعداده نخبة منتقاة من مبدعى مصر ومنهم: سيد مكاوى ملحنًا، وشاركت بالغناء هدى سلطان وحورية حسن وشافية أحمد وعبده السروجى وشفيق جلال ومحمد رشدى وإسماعيل شبانة، بالإضافة إلى ناجى شاكر مصممًا للعرائس ومصطفى كامل مصممًا للديكور، وصلاح السقا مخرجا مسرحيا للأوبريت. 

وقد تم عرض الأوبريت للمرة الأولى فى عيد العمال فى الأول من مايو عام 1961. وظل صلاح جاهين يتعاون مع مسرح القاهرة للعرائس حتى عام 1964. وكتب عدة أعمال تم عرضها. لكن لم تأخذ أى من هذه الأعمال أى شعبية أو شهرة مثل الليلة الكبيرة الذى يعد عملًا ملحميًا تضافرت فيه كل الجهود الإبداعية لإنجاحه.

ولأوبريت الليلة الكبيرة قصة ورواية لا بد من ذكرها. فى عام 1958 شاهد الرئيس جمال عبدالناصر فريق مسرح العرائس الرومانية «سندريكا» وهو يقدم عروضه لأول مرة بالقاهرة. وأعجب بهم جدًا. فطلب من ثروت عكاشة وكان وزيرًا للثقافة فى هذا الوقت، إنشاء فرقة مصرية للعرائس. على أن تقوم الفرقة الرومانية بتدريب الفنانين المصريين وتأهيلهم لهذا الفن. وهو ما تم من خلال ورش تدريبية. وقبل مرور عام أصبح لمصر أول فرقة عرائس، تحت اسم «فرقة مسرح القاهرة للعرائس» وقدمت عرضها الأول فى العاشر من مارس 1959. من خلال مسرحية «الشاطر حسن» التى كانت من تأليف صلاح جاهين.

 

 

 

بعد نجاح الأوبريت أصدر الرئيس جمال عبدالناصر توجيهاته ببناء مسرح دائم للعرائس. وبهذا القرار، تحمس مصمم العرائس «ناجى شاكر» وسعى نحو تحقيق حلمه بتقديم أوبريت غنائى من خلال العرائس. وما إن طلب منظمو المهرجان العالمى للعرائس فى «بوخارست» أن يقدم المصريون عرضًا للعرائس، حتى قفز إلى ذهن «ناجى شاكر» أوبريت الليلة الكبيرة لصديقه الصدوق «صلاح جاهين»، بعدما استمع إليه فى الإذاعة أكثر من مرة.

وحينما اتفق الثلاثى صلاح جاهين وسيد مكاوى وناجى شاكر -مصمم العرائس والمعيد بالفنون الجميلة- والذى عكف على تصميم أكثر من 45 عروسة تحمل جميعها  الهوية المصرية، مما دفع مدير مسرح العرائس الفنان والكاتب راجى عنايت أن يقرر بأن يكون أول عمل يفتتح به المسرح هو أوبريت الليلة الكبيرة.

ليتم على الفور تكوين فريق عمل لتقديم الأوبريت، وعهد إلى المخرج صلاح السقا بعمل السيناريو وإخراج الأوبريت، وتنفيذ الديكور مصطفى كامل وعاونته الفنانة التشكيلية زينات خليل التى عندما رأت عيناها الشيخ سيد مكاوى حتى أعجبت به وإبداعه، ثم تتعدد اللقاءات بينهما خلال العرض، وتمكن الحب من قلبيهما، وسرعان ما تزوجا.

مغنيًا

كان لصلاح جاهين بعض التجارب الغنائية مع عدة ملحنين. وكانت معظم هذه التجارب مع الموسيقار سيد مكاوى الصديق الصدوق لجاهين. حيث كان كلاهما مكملا للآخر. وكانت تجمعهما جلسات خاصة وهناك بعض التسجيلات التى توثق غناء صلاح جاهين وتجليه على عزف صديقه المقرب مكاوى. كما أنه شارك بالغناء فى أوبريت الليلة الكبيرة كما سبق وذكرت. 

وكان جاهين من أكثر من تبنوا المواهب وأكثرهم دعمًا للأصوات والحالات المتفردة فى الغناء. فعلى سبيل المثال كان جاهين متحمسًا جدًا لموهبة المطربة إيمان يونس التى كانت تغنى فى فرقة المصريين والتى أسسها وقادها الموسيقار هانى شنودة. لذلك شاركها فى أغنية الشوارع حواديت التى كتب كلماتها بنفسه.

كما كتب لنفس الفريق أغنية متحسبوش يا بنات والتى غنتها أيضا إيمان يونس. وبالمناسبة فإن إيمان هى أخت الفنانة المتألقة اسعاد يونس. كما كتب أيضا لنفس الفريق أغنية ماشية السنيورة والتى غنتها المطربة منى عزيز.

كما كتب وغنى بنفسه يا أبوزعيزع، والبيانولا التى غناها فى حفل غنائى على موسيقى البيانو أمام الجمهور وقام بأداء استعراضى بسيط أثناء الغناء، مما ألهب حماس الجمهور وانغمسوا فى تصفيق حار.

والغريب أنه بالرغم من كل هذا الإبداع والانغماس فى الفن، فإنه لم يفكر يومًا فى أن يخرج فيلمًا أو حتى فى أن يدير عملًا فنيًا. واكتفى بكونه صانع البهجة والإبداع. ووجد أن دوره كاستشارى فنى يعد أكثر إفادة للعمل نفسه. وهو ما تحقق بالفعل فى فيلم الكرنك. وقد ذكر المخرج الكبير صلاح أبوسيف حول رأيه فى صلاح جاهين أن هناك مثلا بلديًا يقول: «سبع صنايع والبخت ضايع.. لكن الحقيقة أن صلاح جاهين كدب المثل ده».

حياته الاجتماعية

تزوج صلاح جاهين مرتين. حيث تزوج فى عام 1955 من السيدة سوسن محمد زكى - الرسامة بدار الهلال. أنجب منها أمينة وابنه الشاعر بهاء. ثم تزوج فى عام 1967 من الفنانة منى جان قطان وأنجب منها أصغر أبنائه سامية.

وفاته

عانى صلاح جاهين صحيًا بسبب وزنه الزائد. ويذكر أن عند انتقاله للعمل  بجريدة الأهرام تم عقد ثلاث مخصصات مالية له. أولها كانت كراتب، وثانيها كانت لورق الزيبتون وأدوات ومعدات الرسم، وثالثها كانت للعلاج والأدوية. إلا أنه كان قد أصيبَ بالإحباط والاكتئاب بعد هزيمة 67 وقد كان هذا الأسى مضاعفًا بعد غناء أم كلثوم لقصيدته راجعين بقوة السلاح عشية النكسة. وتزامنت النكسة مع بلوغ جاهين مرحلة الكهولة. فعزل نفسه وصار يعمل من البيت. وكان يأتى إليه مبعوث جريدة الأهرام. أو الرجل الغامض -كما كان يلقبه- على موتوسيكل ليستلم منه الكاريكاتير الذى سوف ينشر فى اليوم التالى. وأصبح جاهين يمارس الحياة من داخل بيته. وكانت الحياة كلها تأتى إليه وهو جالس فى مكانه. كل محبيه والمقربون منه.. أصدقاؤه وأبناؤه. ويأتى كل منهم بحكاياته.

ووقتها اتجه جاهين إلى الشعر التأملى العميق والأغانى الخفيفة مثل أغنية يا واد يا تقيل التى غنتها سعاد حسنى. ووفق مصادر متعددة وتضارب فى المعلومات حول نهايته. فقد لازمته هذه الحالة من الاكتئاب حتى وصل به الأمر إلى تناول جرعة زائدة من الحبوب المنومة التى تسببت فى وفاته فى 21 أبريل عام 1986 عن عمر يناهز الستة وخمسين عامًا. تاركًا وراءه تراثًا كبيرًا من القصائد والرسوم الكاريكاتيرية والأفلام السنيمائية التى ما زالت تُعرض حتى يومنا هذا.

وكان آخر ما قام به قبيل وفاته مباشرة، هو زيارة سعاد حسنى، حيث طلب من الفنان شريف منير بأن يصطحبه إليها. وقاد سيارة جاهين وكانت ماركة بيتلز -فولكس فاجن نحو بيت سعاد. وانتظره فى السيارة حتى انتهى من زيارته ثم قاده إلى المنزل. وعندما رحل الفنان الكبير صلاح جاهين، رحلت معه ضحكة سندريللا الشاشة سعاد حسنى وابتسامتها الرنانة وبهجتها وحبها للحياة، إذ إن جاهين كان قد تعرض فى أواخر أيامه لأزمة صحية جادة. ونقل على إثرها إلى المستشفى ومكث به خمسة أيام كانت الأسوأ فى حياة سعاد وكل من حوله وتأثروا به. وقد بدت سعاد فى قمة حزنها وهى ترى معلمها وأستاذها ووالدها الروحى وصديقها الغالى يستقبل الموت.

فى الواقع، لم يكن صلاح جاهين الأب الروحى لسعاد حسنى فقط، بل كان الأب الروحى والأستاذ والمعلم للكثير من مبدعى مصر والعالم العربى. لقد كان وبحق مؤسسة ثقافية إبداعية متنقلة فى صورة انسان. وضع بصمته وأسس مدرسة إبداعية موثقة تحمل اسم أبوالصُلح. حامل لواء الإبداع والبهجة وخفة الظل.. ولا بد أن تخلد أعماله بمتحف يحمل اسمه، فهو وبحق أبوالكاريكاتير المصرى.