«جمعة».. فنان بدرجة فارس

تامر يوسف
لم أكن يومًا أديبًا ولا كاتبًا.. ولا حتى حكواتيًا.. عرفنى القراء رسامًا صحفيًا ومخرجًا فنيًا.. فعمرى كله أمضيته أرسم الكاريكاتير بين جنبات صاحبة الجلالة.. لكن مع رحلاتى المتعددة.. وهجرتى إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. وجدتنى أكتب وأدون كل ما رأت عينى وأتذكر.. الأحداث التى تملأ رأسى المزدحم بالأفكار.. فإليكم بعضًا مما كتبت من الذكريات والأحداث.. لعل ما دونت فى يومياتى يكون زاد المسافر ودليله فى السفر.
من أصعب ما يمكن هو أن تمسك بقلمك لتنعى صديقًا. وأن تسرد بعضًا من الذكريات الخاصة التى جمعتنا سويًا. فما بالك إن كان من تكتب عنه وعن سيرته هو أستاذ كبير وعلامة فارقة فى تاريخ الكاريكاتير المصرى. بل هو واحدٌ من العمالقة. تعلمت منه الكثير والكثير حقيقة. خاصةً أننى زاملته لسنوات فى عدة أماكن منها جريدة الأهرام اليومية والأهرام ويكلى. وكنت أحد من تشرفوا بالتواجد فى مجلس إدارته للجمعية المصرية للكاريكاتير منذ عام 2015 وحتى اللحظات الأخيرة من عمره.

هو فنان متحضر ومثقف. عبر بريشته عن أحلام البسطاء. وكان نصيرًا للمواطن الكادح. وحارب بإبداعه كل الأفكار والاتجاهات السياسية الفاسدة. نجح فى أن يوصل فكرته ووصل بفنه للعالمية. جمعنا العمل فى خدمة فنّ الكاريكاتير عبر الجمعية المصرية للكاريكاتير. فسافرنا هنا وهناك. وجهزنا ونظمنا معارض عدة. وفى أثناء الراحة، دارت بيننا حوارات غنية حول حال الكاريكاتير ورساميه. وخصنى فيها ببعض من ذكرياته وعلاقاته مع أساتذته ممن سبقوه. وهذا ليس بغريب عنه. فهو شخصٌ متواضعٌ جدًا، بالرغم من أنه فى قمة الفخر والعلياء والزهو بما يقدمه من فن. فكان دائمًا يصف نفسه بأنه أهم رسام كاريكاتير سياسى فى مصر.
سيرة ذاتية
بالبحث فى أوراق الفنان المتعددة نجد أن اسمه بالكامل جمعة أحمد على فرحات. واشتهر فنيًا باسم جمعة. وأنه من مواليد 4 أبريل 1941. اكتشف موهبته فى الرسم أستاذ اللغة الإنجليزية بالمدرسة ألبرت مسيحة.
ودعمه بالكتب وقدمه فى سن مبكرة لمجلة روزاليوسف. التى عاد والتحق بها فيما بعد عندما اكتمل نضجه الفنى. حاصل على بكالوريوس التجارة عام 1964. أثناء الدراسة زامل وربطته الصداقة بالفنان الراحل الضيف أحمد والفنان فاروق فلوكس بالرغم من اختلاف الاهتمامات والتوجه.
وفور تخرجه التحق بالعمل بشركة الشرقية للدخان لفترة وجيزة قبل أن ينضم فى نفس العام إلى كتيبة مؤسسة روزاليوسف العريقة ليمثل أحد أبرز رواد جيل العظماء من مدرسة مجلة «صباح الخير» أمثال زهدى وجاهين واللباد وحجازى وبهجت والليثى وغيرهم من الأسماء اللامعة فى عالم الكاريكاتير. وقد تميز عبر عقود من الزمن برسومه وأفكاره السياسية اللاذعة (الحراقة). وقد ذاع صيته أكثر وأكثر حين أثار ملف الرسام الأمريكى الإسرائيلى الأصل صهيونى الهوى رعنان لورى الذى كان فى طريقه لنشر رسومه بالصحف المصرية تحت مظلة التطبيع.
أحد أعضاء الجمعية المصرية للكاريكاتير منذ تأسيسها على يد الفنان زهدى العدوى. رسم بمجلة «كاريكاتير» فى إصدارها الأول. وكان أحد مؤسسى مجلة «كاريكاتير» فى إصدارها الثانى.
حصل على عدة جوائز منها جائزة نقابة الصحفيين عامى 1986 و1989. وجائزة مصطفى وعلى أمين عام 1999. وقد تم تكريمه من قبل الملتقى العربى لرواد الكاريكاتير فى دورته الثانية عام 2018. كما قام بتحكيم جائزة التفوق بنقابة الصحفيين عن قسم الكاريكاتير لسنوات. له جناح خاص يضم أعماله بمتحف الكاريكاتير بالفيوم. كما أنه ترأس مجلس إدارة الجمعية المصرية للكاريكاتير خلفًا للفنان أحمد طوغان منذ عام 2015 وحتى آخر نفس فى عمره.
الأهرام ويكلى
التحق جمعة بركب جريدتنا الغراء الأهرام ويكلى منذ تأسيسها عام 1991. حيث إن مؤسس ورئيس التحرير السابق للويكلى كانت له نظرة ثاقبة فى اختيار الكوادر العاملة بالجريدة. وكان جمعة خير اختيار حيث قدم عبر بوابته أعمالًا كاريكاتورية مميزة. لم تختلف كثيرًا عما كان يقدمه فى الصحف الأخرى من حيث رصانة الفكرة والمضمون. وواكب كل الأحداث ووثقها بريشته. حرب الخليج وتبعيتها. القضية الفلسطينية. قضايا الشرق الأوسط. الشئون الإقليمية والعالمية. حيث كانت المساحة التى يقدمها غاية فى الثراء. بالرغم من أنها لم تكن المساحة الإبداعية الوحيدة بالجريدة. فتخيلوا أن جمعة كان واحدًا من ضمن ستة رسامين بالأهرام ويكلى. بهجورى وجميل شفيق ورجائى ونيس وفتحى أبوالعز وأسامة قاسم وأخيرًا الفقير إلى الله كاتب هذا المقال. حيث كانت منافسة حقيقية بين أجيال مختلفة وكانت النتيجة دائمًا فى صالح القارئ.
ما لا يعرفه الكثير عنه أن بدايات جمعة الصحفية أنه كان رسامًا للبورتريه. وكان متميزًا فيه. وكان يرسم كل من حوله من زملائه. وأتذكر أن الفنان الراحل رؤوف عياد قد روى لى عن رسم كاريكاتيرى لطيف جدًا رسمه له الفنان جمعة بمناسبة زواجه. وكان سعيدًا به جدًا. حيث رسمه قصيرًا ضاحكًا متعلقًا بذراع زوجته فارعة الطول فى مفارقة كاريكاتورية ساخرة.
لكن سرعان ما خطفه الكاريكاتير السياسى من فن البورتريه. حيث وجد نفسه وتألق وسط أسماء لامعة فى هذه المرحلة. حتى بين أبناء جيله أمثال محمد حاكم والراحل عادل البطراوى.

تميزت أعمال جمعة بالخطوط القوية الصارمة. وقد قدم معظم أعماله بالأبيض والأسود. وكل ذلك زاد من نجاح توصيل فكرته من خلال الحالة الدرامية للكادر الكاريكاتورى. ورغم ذلك لم تر الألوان رسوماته إلا فيما نشره بمجلة الأهرام العربى.
ومع بزوغ الصحافة الخليجية فى ستينيات القرن الماضى سافر العديد من رسامى الكاريكاتير المصريين للحاق بركب الصحافة هناك. إلا أنه رفض الفكرة ولم يسع أبدًا لترك وطنه. حيث إنه يعتبرها الأرض الخصبة التى ساعدته على نجاحه ونبوغه كرسام.
لذلك وجد أن تعاونه مع العديد من الصحف والمجلات المصرية سيزيد من انتشاره. ولم لا فالصحف المعارضة تتهافت على نشر أعماله قبل الصحف القومية. والغريب فعلًا أنه تعاون مع كليهما. فرسومه الكاريكاتورية نشرت فى إصدارات الأهرام كالأهرام العربى والاقتصادى والمسائى تمامًا كما نشرت فى الأحرار والأهالى والشعب والوفد والفجر.
تهافتت الصحف الأمريكية على نشر أعماله عبر وكيل الأعمال الراحل جيرى روبينسون الذى تعاقد بدوره مع مجموعة من الرسامين المصريين لنشر أعمالهم بالصحف الأمريكية.
وكان فرحات قد حرص على جمع أعماله وتوثيقها فى كتب. فأصدر عدة كتب. منها «عالم ساخن جدًا» وكتابه الشهير «4 حكومات ومعارضة». وكان آخرهم كتاب «سلام الدم - 60 عامًا من الصراع العربى والإسرائيلى» عام 2017، وحرص فيه على جمع كل رسومه الداعمة للقضية الفلسطينية على مدار سنوات طوال.
قدم جمعة برنامجاُ للكاريكاتير تحت اسم «مع جمعة كل جمعة» عبر قناة النيل الثقافية قبل أن ينتقل البرنامج لقناة النيل الإخبارية.
وكان البرنامج يُذاع يوم الجمعة هو نفس اليوم الذى كان قراء جريدة الأهرام اليومى تنتظر فيه الكاريكاتير الأسبوعى له.
أصدقاؤه وتلاميذه
الفنان الكبير جمعة فرحات له صداقات متعددة ومتشعبة. ويعد الكاتب والإعلامى الكبير عادل حموده من أقرب أصدقائه. كما أن الفنان عمرو سليم رسام الكاريكاتير بجريدة «المصرى اليوم» من أهم تلاميذه النابغين. وبالطبع صديقه الصدوق الدكتور فخرى يوسف (مقهى الحرافيش الثقافى) – الذى طالما ما احتفى به كرمه. بل ونظم له مسابقة لرسم ملامحه بالكاريكاتير. والذى نعاه عبر صفحة الحرافيش على الفيسبوك قائلًا: وداعًا يا صديق العمر.
النهاية
مع تقدم جمعة فى العمر هاجمه المرض وبشدة. إلا أنه لم يستسلم له. وداوم على العمل ومتابعة الرسم كفارس جسور. ولم يتخلف يومًا عن المشاركة والتواجد فى المحافل الفنية. وقبل عدة أيام من وفاته بادرنى بمكالمة هاتفية لتهنئتى بحصولى على الجائزة الأولى فى مسابقة المجلس الأعلى للصحافة. ورغم سعادتى بهذه المكالمة إلا أنى كنت مشفقًا عليه لما أصاب صوته من وهن. فحاولت أن أنهى المكالمة سريعًا. إلا أنه عاد ليتصل بى مجددًا بعدها بثلاثة أيام ليهنئنى مرة أخرى مصرحًا بعدم اقتناعه بأن المكالمة السابقة كانت كافية. لكن يبدو لى أنها كانت مكالمة الوداع. فلقد توفى جمعة فى سلام. ويبدو أن جمعة ارتبط اسمه بيوم الجمعة فى كل ما يخص حياته وحتى وفاته!.