الأحد 13 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
أحمد بهاءالدين وهواية أصحاب الملايين!

أحمد بهاءالدين وهواية أصحاب الملايين!

حال الصحافة العربية فى العالم العربى كله «لا يسر عدو ولا حبيب»!



ولم تعد الصحافة كمشروع تجارى يحقق أى مكاسب لأصحابه، ووجد العشرات من أصحاب الصحف والمجلات أنفسهم وهم يكتبون شهادة وفاة الصحف التى يصدرونها.

 

ومن يملك المال الآن لا يفكر فى إصدار صحيفة بل يفكر فى إنشاء قناة أو محطة فضائية يصل إرسالها إلى الملايين من المشاهدين وهو ما تعجز عنه أى صحيفة أو مجلة!!

 

لكن قبل نصف قرن من الزمان كان الحال غير الحال والزمن غير الزمن وكانت الصحافة فى قمة ازدهارها وقوتها وانتشارها، وكانت الموضة أيامها هى هجرة الصحف والمجلات العربية إلى باريس ولندن، فصدرت عشرات الصحف والمجلات. مثلا الشرق الأوسط، المجلة، المستقبل، كل العرب، التضامن وغيرها.

هذه الظاهرة لفتت بطبيعة الحال نظر كاتبنا الكبير «أحمد بهاء الدين» وكتب فى مجلة «المستقبل» التى كان يرأس تحريرها الأستاذ «نبيل خورى» مقالا مهمًا بعنوان «إصدار الصحف أحدث هوايات أصحاب الملايين العرب»  هذا المقال أعادت نشره صحيفة «المساء» بتاريخ 18 مارس سنة 1982 - وربما صحيفة الجمهورية - فى باب عنوانه «استراحة الخميس» كان يعيد نشر مقالات الكتاب المصريين الذين يكتبون فى الخارج.

كتب الأستاذ أحمد بهاء الدين يقول فى مقاله الممتع والمهم:

 

 

 

الهواية الجديدة فى عالم العروبة هى - إصدار الصحف - بعض العرب من ذوى الثراء الفاحش صار عندهم كل شىء: القصر واليخت الذى يشبه القصر والطائرة الخاصة التى تشبه «اليخت» ثم تجد القصور فى لندن وباريس وكان وكاليفورنيا ثم القصر الريفى وأحيانا إحدى قلاع العصور الوسطى.. ثم ماذا؟!

آخر موضة هى الصحف والمجلات.. وهى أكثر إغراءً من كل ما سبق، ففيها شهرة واسعة ومكانة جديدة عند الناس والحكّام وشعور بالرئاسة على كتّاب وصحفيين لا يعطيه امتلاك يخت والرئاسة على بحارته، ثم إن تكاليف الجريدة أو المجلة أكبر من الباخرة أو اليخت أو الطائرة أو العزبة، فضلا عن أن خسائرها أعظم والخسائر أحد مقاييس الثراء، فعلى قدر أهل المال تأتى الخسائر!

وامتدت الموجة من الرجال إلى النساء، فإذا كان للرجل الأسهم وللنساء المجوهرات!

ففى الصحافة بدأت بعض بنات المجتمع الراقى يصدرن مجلات نسائية تعلم بنات شعوبنا الذوق الراقى وموضات العصر الحديث!

 

 

 

والمال على أى حال يحب الصحافة، فأول رأسمالية فى العالم العربى كانت مصرية ولايكاد مليونير مصرى - يا حرام - على ملايينهم البائسة بالمقارنة إلى ملايين اليوم إلا وحاول إصدار جريدة من «طلعت حرب» باشا مؤسس مصر الاقتصادية إلى «أحمد عبود» باشا أكبر مليونير صناعى، إلى «أحمد حمزة» باشا أكبر مليونير من زراعة الزهور وتربية الخيول!

وفى غرب أوروبا معظم أصحاب الصحف أصحاب ملايين.. و.. و..

 

بعد ذلك ينتقل الأستاذ «بهاء» إلى تجربته الصحفية فيقول:

وعندما غضب علىّ الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر» مرة نقلنى من عمل صحفى لذيذ وأوسع أثرًا وهو رئاسة تحرير أخبار اليوم وشبه تفرغ للكتابة.. إلى رئاسة مجلس إدارة مؤسسة أصبحت فيها مسئولا عن ثلاثة آلاف محرر وموظف وعامل وميزانية بالملايين وشراء مطابع وبناء مخازن وبالإشراف على مجموعة مجلات سياسية ونسائية ومجلات أطفال!

وكنت قد توليت إصدار ورئاسة تحرير أول مجلة فى حياتى «صباح الخير» وأنا فى السابعة والعشرين من العمر، وحولت لرئيس تحرير أكبر مجلة فى مصر - أخبار اليوم - قبل تأميم الصحافة وأنا فى الثانية والثلاثين من العمر ثم رئيس مجلس الإدارة والثلاثة آلاف إنسان وأنا فى التاسعة والثلاثين من العمر!

 

 

 

أى أننى لم أتمتع بشبابى خصوصًا شبابى الصحفى، فالشباب الصحفى أن ينطلق المرء بلسانه ويكتب ويشاغب ويشعر أنه ليس مسئولا إلا عن نفسه، ولكن ما حدث كان أشبه بمن يجد نفسه فى مطلع شبابه مسئولا عن عائلة كبيرة ينوء كاهله بحمل مسئولياتها فأى شغب صحفى أو انطلاق وراء شيطان الكتابة سوف يحس أثره ثلاثة آلاف رجل أو امرأة بين السبعين والعشرين من العمر!

ويسترسل الأستاذ «بهاء» فى ذكرياته الصحفية قائلا: وغضب الرئيس «السادات» علىّ يومًا فأعفانى من هذا العبء الباهظ ولم يصدق أحد أننى كنت أسعد الناس!

ورضى الرئيس «السادات» عنى يومًا بعد حرب أكتوبر 1973 فأصدر قرارًا بتعيينى رئيسًا لتحرير جريدة الأهرام.

وقد دهش السادات وأنا جالس أمامه فى استراحة القناطر يبلغنى قراره لأول مرة.. عندما وجدنى أحاول مستميتًا أن أمنع القرار وأن أثنيه عن رأيه!

وأذكر هنا من حديث الساعات الطوال أنى فاجأته قائلا:

هل يعرف أحد أسماء رؤساء تحرير التايمز والأوبزرفر والنيويورك تايمز، وقلت للرئيس وكان مندهشا: هذا طبيعى فهناك ليس لوظيفة رئيس التحرير هذه الأهمية ولا ينشرون اسمه على صور الصحيفة وفى وسطها وفى ذيلها كما نفعل نحن أحيانًا، رئيس التحرير معناه صحفى  مجرب دقيق يعرف كيف يقود الأوركسترا وليس مؤلفًا موسيقيًا ولا حتى عازف آلة..

لا شك تعرف أسماء، «جيمس ريستون»، و«والتريمان» و«روبرت ستيفتر» إلخ..

ورد الرئيس السادات قائلا: طبعًا.. وقلت على الفور: أنا لا أطمع فى رئاسة إمبراطورية ولا أفرح بالعمل الإدارى ويزعجنى أن أكون فى موقف أتسلط فيه على الناس بالتوظيف والترقية والفصل ولا أحب عقد صفقات شراء الآلات والأرض ومتابعة مقاولى البناء، هذه أشياء لها ناسها، أنا من فصيلة الكتاب فقط، أحب أن أكون من أسرة هؤلاء.

 

 

 

ولو سألت غيرى من الصحفيين المصريين بمن تأثرت بهم لقالوا لك فلان وفلان من ملوك الصحافة، ولكننى تأثرت بكاتب توفى هو الدكتور «محمود عزمى» عاش كاتبًا ومات كاتبًا ولم أره فى حياتى ولكنه باعتراف كل أبناء المهنة كان أعظم كاتب صحفى مصرى فى عصره.

ولم يقتنع الرئيس السادات وتوليت رئاسة تحرير الأهرام حتى سقطت مريضًا هذه المرة ونقلونى إلى أمريكا وقلت لن أعود إلا كاتبًا ومحررًا.. كنت أروى هذا وغيره للشباب الصحفى العربى فى أوروبا، وقد تفتحت «خياشيم» الكثيرين لإصدار الصحف وتحمل اللقب العزيز «رئيس التحرير» !

ويسمح لى الإخوة اللبنانيون أنهم بالذات أكثر من نشر وينشر هذا المرض بين الصحفيين، كل واحد ينتظر مشروعًا ليرأس تحريره وليكون مشروعه! بعضهم لفوائد مالية غير خافية وبعضهم تطرفًا فى الطموح الذى هو ميزة، وعيب إخواننا العرب من أحفاد «الفينيقيين» ذوى حضارة سبعة آلاف عام وكنت أحاول أن أقنعهم بأن أعظم لقب فى المهنة إذا كانت المهنة هى الهدف سيظل لقب المحرر والمراسل والرسام، وطبعًا دون جدوى!

ولكننى فى النهاية قلت لنفسى هيصوا يا ولاد ويا بنات! فإنفاق المال على إصدار الصحف والمجلات خير من إنفاقه على السهرات وموائد القمار، والصحفى الكادح مهما كان أمره لا يقل أحقية فى هذا المال عن مطربتنا «صباح» التى يلقى عليها المال وهى تغنى فى لندن فى أحد المطاعم... بمعدل خمسة وعشرين ألف جنيه استرلينى فى الليلة الواحدة! أى أنها تجمع من النقطة فقط مجموع جائزة «نوبل» مرة كل ليلتين!! ويختتم الأستاذ بهاء مقاله قائلا: وفى مجالات شتى لا بد من الكثرة ليحدث الانتقاء ولابد من الخسارة ليبدأ الكسب، ولابد أن يرحل عن المهنة يومًا «دون جواناتها» ويبقى فيها فقط عشاقها المساكين المتيمون.